جهود كبيرة بذلت ولقاءات كثيرة عقدت في أكثر من قُطر لطي صفحة الانقسام الفلسطيني الذي طال أمده، إلا أن الإخفاق كان سيد الموقف. بيد أن الاستمرار في بذل الجهد لإغلاق هذه الصفحة واجب على كل مكونات وأطياف الشعب الفلسطيني، إذ لا معنى للإحباط واليأس والاستسلام أمام تحديات لم الشمل الفلسطيني. وإن كل الجهد المبذول من الفصائل وقياداتها ومن قوى المجتمع المدني ينبغي أن يكون محل تقدير، فالقضية الفلسطينية العادلة تستحق بذل كل الجهد الممكن لتحصينها وإعادة الاعتبار لها.
ولقد أظهرت استطلاعات عديدة للرأي العام الفلسطيني مدى رغبة الشعب الفلسطيني في طي صفحة الانقسام وترتيب البيت الفلسطيني وتوحيد الجهود لمواجهة الاحتلال وسياساته العدوانية المستمرة، وهو بألوانه السياسية والفكرية المختلفة يدرك أن الانقسام أحد أهم أسباب ضعف الموقف الفلسطيني والاستنزاف المستمر في المشهد الوطني، ويدرك أيضا أن الموقف الفلسطيني العام يزداد ضعفا كل يوم، والاحتلال - بكل أسف - وبمساندة القوى الدولية وبالذات الولايات المتحدة، يسجل نقاطا لصالحة على أكثر من صعيد، فهو يلتهم الأرض ويزيد من المستوطنات والمستوطنين، ويهوّد في القدس، وفي ذات الوقت يطبع مع دول جديدة من حولنا؛ لم نتوقع يوما أنها ستطبع على حساب الفلسطينيين، وبالتالي فالوقت لا يعمل لصالح الفلسطينيين.
لا شك أن كل الحريصين على المشروع الوطني كانوا يفضلون أن يكون المدخل لإنهاء الانقسام هو التوافق والتدرج في حل المشاكل المترتبة عليه في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالاستناد الى مشروع وطني جامع ومتفق عليه، لكن أما وأن الفصائل المعنية اتفقت على أن يكون المدخل هو عبر انتخابات متتالية ومترابطة، كما نصت عليه تفاهمات إسطنبول واتفاق القاهرة الأخير، فلا بد من استثمار الفرصة وعدم تضييعها، والدفع بها كي تشكل مدخلا جديا لإنهاء الانقسام وترتيب المؤسسة السياسية، لا سيما أن الاتفاق يتضمن المؤسسات السياسية المختلفة (التشريعي والرئاسة والمجلس الوطني)، ولا يمكن الاتكاء بشكل دائم على فكرة عدم الثقة والخوف من الإقدام على خطوات قد لا تبدو محكمة تماما. إذ أن أي خطوة يمكن أن تقود الى عمل فلسطيني مشترك ستكون أفضل من استمرار الحال المهترئ القائم، والذي لم يستقر على ما فيه من اهتراء، بل إنه يتراجع بشكل مستمر.
والتخوف من أن هذا المسار يهدف الى احتواء قوى المقاومة، أو لتهيئة الظروف وتجديد الشرعية للقيادة الفلسطينية الحالية تمهيدا لاستئناف مسار تسوية من جديد والتحضير لتقديم تنازلات أمر، ورغم أنه ينطلق من الحرص على المقاومة والقضية الفلسطينية، هو تخوف مبالغ فيه وينطلق من تشخيص غير دقيق للواقع السياسي الفلسطيني وحتى الإقليمي، ويفترض أن المقاومة وقواها في حالة ضعف وأنها لا تمتلك الأوراق الكافية للحفاظ على قوتها ورؤيتها ومكانتها، الأمر الذي تنفيه الحقائق على الأرض. فهي قوى تتمتع بشعبية عالية في أوساط الفلسطينيين ولديها أوراق قوة كثيرة ومتنوعة على الأرض، وهي في موقف سياسي أقوى بكثير من موقف قوى التسوية. وقد طُرحت هذه التخوفات بشكل أكبر عام 2006، وكانت النتائج معاكسة تماما لتلك التخوفات.
تشكل الانتخابات فرصة لإعادة تأهيل وتجديد وبث الحياة في الطبقة السياسية الفلسطينية وفي عروق الحياة المدنية والإدارية. فهي ستوفر الفرصة لمئات القيادات والكوادر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية لتشارك في هذه العملية، ولتجبر الجميع على تقديم أفضل ما لديهم للشعب الفلسطيني، وستشكل تحديا حقيقيا لكل العاملين في الحقل السياسي، وستعطي المواطن الفلسطيني فرصة لممارسة حقه المسلوب ليقرر من يتحدث باسمه ويمثله، وهي بالتأكيد ستقود إلى فوز العشرات من القيادات الجديدة التي ستشكل إضافة جديدة للمشهد السياسي.
كما أن الانتخابات تعني عودة الحياة للعمل البرلماني والتشريعي، وإعادة الاعتبار للسلطة التشريعية التي تم الإجهاز عليها بالكامل خلال فترة الانقسام، حيث تحولت السلطة الى سلطة فردية مطلقة "أوتوقراطية"، غابت فيها المحاسبة والرقابة للسلطة التنفيذية، وبات الرئيس يجمع كل السلطات في يده؛ فهو المشرع والحاكم والقاضي. هذا السلوك السياسي ألحق أذى كبيرا بالحالة الفلسطينية على كافة الصعد، لا سيما السياسية منها.
الانتخابات وبغض النظر عن الفائز فيها، ونظرا لأنها ستجرى وفقا للتمثيل النسبي الكامل، فإنها ستجبر الجميع على العمل المشترك وبناء التحالفات بين الفصائل لتشكيل الحكومة ولضمان عمل المنظومة السياسية، حيث أنه من المستبعد جدا، وفقا لنتائج كل الانتخابات الفلسطينية السابقة (البرلمانية والنقابية والطلابية والبلدية)، وكذلك وفقا لاستطلاعات الرأي خلال السنوات السابقة، أن يتمكن أي من الفصائل من حسم النتائج بشكل مطلق لصالحة، فأكبر فصيل فلسطيني تتراوح نسبة تأييده في الشارع بين 30-40 في المئة. وهو ما يعني حتمية العمل المشترك ولو بحده الأدنى، ما سيشكل فرصة جدية للخروج من مربع الانقسام وفتح الطريق أمام العمل الفلسطيني المشترك، خاصة أن الكتلة المرجحة المتوقعة في المجلس التشريعي، سواء أكانت من اليسار الفلسطيني أم من المستقلين الوطنيين، لا تنحاز بشكل كامل ودائم لأي من طرفي المعادلة الرئيسة (حركتي فتح وحماس)، وستكون الفرصة لذلك التوافق أكبر إذا ما تمكنت الفصائل من بناء كتلة وطنية عريضة تخوض بها الانتخابات؛ لأنها ستعبر عن خطوة عملية للتوافق قد يبنى عليها مستقبل العمل السياسي وما بعد الانتخابات.
وبما أن خطوة الانتخابات كمدخل لترتيب البيت الفلسطيني قد أصبحت أكثر جدية وفرصة عقدها كبيرة، فلا بد من لفت الانتباه إلى جملة من التحديات التي تواجهها، ومن بينها:
أولا: موقف الولايات المتحدة الأمريكية: قد تلجأ الولايات المتحدة إلى عرقلة الانتخابات الفلسطينية إذا ما شعرت أنها ستوفر فرصة لفوز حركة حماس أو حصولها على نسبة تؤهلها للعب دور فعال في المؤسسة السياسية الفلسطينية. ويستند هذا الاعتقاد إلى أن الإدارة الامريكية وبعض القوى الدولية لا ترغب في إنهاء الانقسام الفلسطيني ابتداء، ولا في إعطاء حركة حماس وحركات المقاومة الأخرى فرصة لتجديد شرعيتها وللاندماج في المؤسسة السياسية الفلسطينية، كون الولايات المتحدة منحازة وداعمة بشكل دائم للاحتلال ومصالحه، ولا ترغب في وجود قيادة أو مؤسسة فلسطينية موحدة وقوية. ورغم اعتقاد البعض بأن الإدارات الديمقراطية ومنها الإدارة الحالية ستكون معنية بالديمقراطية وشرعية التمثيل، إلا أن العديد من الشواهد تؤكد أن هذا الأمر لا ينطبق على العالم العربي، وخير شاهد على ذلك موقف إدارة أوباما من موجة الربيع العربي وما تلاها من أحداث.
ثانيا: موقف بعض القوى الإقليمية: رغم المواقف المعلنة المؤيدة لخطوات المصالحة ومساعي إنهاء الانقسام الفلسطيني، إلا أن عددا من دول الإقليم ولاعتبارات مختلفة لا ترغب في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإجراء الانتخابات. فبعضها لا يرغب في إعادة إشراك حركة حماس (كحركة إسلام سياسي) في النظام السياسي الفلسطيني. فهذه الدول تخوض حربا علنية شرسة أنفقت عليها مليارات الدولارات بهدف إقصاء الإسلاميين والحيلولة بينهم وبين المشاركة في النظم السياسية. بل إنها تذهب أبعد من ذلك ولا ترغب حتى في قيادة السلطة الحالية، وتسعى إلى توفير بيئة مناسبة لفرض بعض الجماعات الفلسطينية الموالية لها على المشهد السياسي. ودول أخرى تشكل قوى المقاومة وبالذات حركة حماس تحديا لها كونها لا زالت تتبنى المقاومة وترفض التطبيع وتعارض التسوية السياسية مع الاحتلال، وبالتالي فهي تشكل تحديا لسياسة هذه الدول تجاه القضية الفلسطينية. كما أن استمرار الانقسام الفلسطيني يعفي بعض الدول العربية من واجبها تجاه القضية الفلسطينية، ويستخدم كذريعة للتقصير المستمر تجاه ما اعتبر تاريخيا قضية العرب الأولى. وإن إعادة توحيد القوى الفلسطينية والمؤسسة السياسية الفلسطينية سيضع الجميع مرة أخرى أمام مسؤولياتهم.
ثالثا: الاحتلال: مما لا شك فيه أن استمرار الانقسام الفلسطيني هو مصلحة إسرائيلية، وأن الاحتلال معني ويبذل جهودا، بعضها لا تخفى على أحد، لاستمراره والحيلولة دون إنهائه. فقد وفر الانقسام له الفرص للاستفراد بقطاع غزة تارة وبالضفة الغربية دائما، فتغول في القتل ومصادرة الأراضي وهدم البيوت... إلى آخر ذلك من ممارسات احتلالية وحشية. كما أنه وبحكم سيطرته على الأرض ابتداء وبما له من قدرة للتأثير على جهات فلسطينية عدة عبر أدواته المتنوعة؛ قادر على التدخل السلبي في أي وقت. وتدخله يشكل تهديدا حقيقيا لأي مسار جاد للخروج من الانقسام، وعليه فالانتخابات القادمة مهددة بشكل جدي من قبل الاحتلال وأدواته.
رابعا: قوى الشد العكسي الفلسطيني: وهي متنوعة ومتعددة، منها جماعات المصالح وبعض النخب الاقتصادية والسياسية وتيارات داخل بعض الفصائل، ممن وفر لهم الانقسام البيئة المناسبة للازدهار وزيادة الحضور والتأثير، وهو تأثير ما كان له أن يكون لو أن الحالة الوطنية صحية والمؤسسة السياسية موحدة.
خامسا: الأوضاع الداخلية لحركة فتح وقدرتها على ترتيب أوضاعها الداخلية: إذ تعاني حركة فتح من أوضاع داخلية صعبة ناتجة عن خلافات قديمة جديدة مرتبطة بالسلطة والنفوذ والهوية. ويدور الحديث هذه الأيام عن ثلاثة تيارات أساسية قد تتحول الى ثلاث كتل انتخابية: تيار دحلان، وتيار مروان البرغوثي، والتيار الرئيس الممثل باللجنة المركزية للحركة. ورغم إمكانية نجاح حركة فتح في توحيد صفوفها وتشكيل قائمة انتخابية واحدة (باستثناء تيار دحلان)، إلا أن ما يقال حول إصرار مروان البرغوثي على الترشح للرئاسة واحتمال فشل الحركة في تشكيل قائمة موحدة قد يكون سببا رئيسيا في تعطيل المسار وعدم إجراء الانتخابات.
إن استحضار كل هذه التحديات يعزز القناعة بأن أي اختراق في الموقف الوطني الجامد يشكل إنجازا لا بد من الحفاظ عليه وتشجيعه وإسناده، وبذل كل جهد يساهم في استمراره ونجاحه، وأن دعمه وحمايته واجب يقع على كاهل كل وطني فلسطيني يهتم لأمر الشعب الفلسطيني وقضيته ومستقبله، وأن تصليب موقف القيادات الفلسطينية بمختلف أطيافها وتعزيز الإرادة الوطنية لديها هما صمام الأمان والضامن الأساس لنجاح هذه الجهود، ومواجهة هذه التحديات، وهو واجب كل من له تأثير في الساحة الفلسطينية، من كتاب وصحفيين واقتصاديين وأكاديميين... الخ، وهم مدعوون للانحياز لخيار الوحدة ونبذ الفرقة وتصليب الجبهة الداخلية، وأن يشدوا من عضد القائمين على هذا الأمر من الفصائل كافة وبالذات من حركتي فتح وحماس.
فالتعاضد الوطني وتصليب الجبهة الداخلية وجلب دعم كل أصدقاء ومؤيدي الشعب الفلسطيني، هو وحده الكفيل بمواجهة هذه التحديات والحيلولة بينها وبين إفشال هذا المسار الذي يشكل بارقة أمل لإنهاء مرحلة قاسية لم ينج أحد من الفلسطينيين من آثارها. ومن الشواهد القريبة والواضحة على قدرة الفلسطينيين على مواجهة التحديات عندما يقفون متحدين ويترفعون عن المناكفات والرؤى الحزبية الضيقة؛ الموقف من صفقة القرن ومشاريع الضم التي شكل الموقف الفلسطيني الجمعي الرافض والمقاوم لها سببا رئيسا في تعطيلها.