أربعة عشر شهراً كانت قد مرت على إعلان ترامب القدسَ عاصمةً للكيان الصهيوني؛ وتسعة شهورٍ بعد افتتاح السفارة الأمريكية في القدس، وفي ظل الإعداد للإعلان عن صفقة القرن، ظن المحتل أن اللحظة باتت مواتية لفرض النهايات التي يريد في الأقصى، ولتتويج مسار التقسيم المكاني في باب الرحمة بعد 16 عاماً من إغلاقه، وبعد ستة أعوامٍ من تبني الليكود رسمياً خطة كتلة المعبد بداخله والتي تقضي باتخاذ باب الرحمة مركزاً للتقسيم.
وضعت سلطات الاحتلال القفل على البوابة الحديدية أعلى درج باب الرحمة في يوم الأحد 16-2-2019، لتعلن وضع اليد على جزءٍ أصيلٍ من الأقصى، مراهنة على التأييد الأمريكي وعلى طول الأمل والتمهيد لقضمه.
أمام كل هذا التهويل كانت هبة باب الرحمة، التي بدأت بحراكٍ شعبي خجول في اليوم التالي لوضع القفل، وتمكنت في اليوم الذي تلاه من خلع الباب الخارجي، وكادت أن تذروها رياح أنصاف المواقف في صباح يوم الثلاثاء 19-2-2019 حين أعلن نفرٌ من المشايخ بحضور مدير الأوقاف بأن قفل الأوقاف عاد مكان قفل شرطة الاحتلال، وأن الأمور "عادت إلى نصابها"، لكن الذي انكشف من نية قضم باب الرحمة كان أوضح كثيراً من أن تُطوى صفحته باستبدال قفلٍ بقفل.
في مساء اليوم ذاته كانت الملحمة التي سطرها شباب القدس بالدماء، بتسعة عشر جريحاً وواحدٍ وعشرين معتقلاً برهن شباب القدس للمحتل بأن باب الرحمة دونه الدماء والأرواح، وأن لا مكان لأنصاف الحلول بعدما ظهرت نوايا قضمه... رغم الجراح والدماء اقتلع أبطال القدس الباب كاملاً.
لكن شرطة الاحتلال أعادته في الصباح وقد بات كالخرقة المهترئة. في اليوم التالي لم يكن من حاجةٍ لأي قوة لرسم المسار، أشبال من القدس اقتلعوا الباب بأيديهم الصغيرة تحت عيون كاميرات المصلين والمرابطين، وبدأ الحشد للجمعة الفاصلة، لفتح أبواب مبنى باب الرحمة واستعادته إلى حضن الأقصى، مصلىً من مصلياته المسقوفة.
يوم الجمعة 22-2-2019 كانت شرطة الاحتلال أمام الحقيقة العارية: هل تجرؤ على فتح مواجهةٍ مع عشرات آلاف المصلين والمرابطين في الأقصى بعدما رأتْه من أحمرَ قانٍ بُذل دونه قبل أيام؟ هل تفتح بيديها الباب إلى هاوية الانتفاضة التي تخشاها؟ أم تبتلع مرارتها وتشاهد الجماهير وهي تفتح الباب وتبدد 16 عاماً من التخطيط المتأنى والأوهام؛ فكان أن اختارت الثانية، فتحت جماهير المرابطين باب الرحمة وهي تهتف "لن تركع أمة قائدها محمد"، أما شرطة الاحتلال فلم تجرؤ على إطلاق قنبلة دخانٍ أو غازٍ واحدة أو حتى رصاصةٍ في الهواء.
ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني ببساطة أن المحتل لأول مرة في تاريخه سلّمَ مسبقاً بعجزه أمام الجماهير، وهو المتسلح بقرار ترامب وسفارته؛ يعني ببساطة ولادة ميزان قوىً جديد من رحم الخنق والحصار والانحياز الأمريكي يقول بأن الإرادة الشعبية وحدها كافية لفرض التراجع على المحتل إن حضرت، وهو الدرس العملي الذي ما زال ينتظر أن ندركه بحق.
لم يستطِب المحتل طعم المرارة في حلقه، فهو لم يعتد يوماً الركوع أمام الجماهير، وها هو يفعلها للمرة الثانية في غضون عامين بعد تراجعه في باب الأسباط، فبات لزاماً عليه أن يقوّض هذا الإنجاز كي لا تعتاد تلك الجماهير أنها قادرة على فرض إرادتها، فذاك أخطر سلاح قد تحمله في القلب والعقل قبل الأيدي.
بدأ المحتل عمله على تقويض نصر باب الرحمة منذ اليوم التالي لها، وعمل على ذلك ضمن خمسة مساراتٍ حتى الآن: أولاً بدأ باعتقال وإبعاد كل حارسٍ يفتح باب الرحمة، ولما هبّ أهل القدس لنجدة حراس الأقصى أخذ يعتقلهم ويبعدهم هم أيضاً، لكنه خسر معركة طول النفس بعد شهرين أمام مبادرة عائلات القدس لتولي كلٍّ منها فتح الباب أسبوعاً من الزمن، لقد كان ذلك يهدده بالدخول في مواجهة عميقة مع المجتمع المقدسي، فأقر بحجمه للمرة الثانية وقرر التراجع.
المسار الثالث كان ملاحقة الأثاث؛ ففي رمضان ألبس المقدسيون والمرابطون والأوقاف باب الرحمة حلة بهية، فُرش فيه السجاد وأهديت له المصاحف وخزانة لها وقاطع خشبي بين صفوف الرجال والنساء وبخور وزينة وقهوة وحلويات وحلقات ذكرٍ وأناشيد ووضعت خزانة للأحذية على بابه... بات هدف المحتل أن يكرس عدم اعترافه به كمصلى، فباتت شرطته تتعمد اقتحامه بالأحذية، وتسرق أثاثه بشكلٍ أسبوعي، لعلها تمنع تكريسه مصلى، لكنها خسرت سباق طول النفس هنا أيضاً، وبحلول نهاية عام 2019 بات واضحاً لها أن ذلك المسار خائب، وأن أثاث مصلى باب الرحمة وجد ليبقى.
اقتحامٌ يومي لمصلى باب الرحمة، واعتقال للمصلين وإبعاد وتنكيل بهم بالضرب والأذى المتعمد لعلها تفرغه، كان هذا مسار عملها الرابع الذي لم يتوقف منذ سنوات، والذي كانت آخر فصوله اعتقال وإبعاد مجموعة من المرابطين والمرابطات الأسبوع الماضي.