من الواضح أن المنطقة أمام متغيرات كبرى، وأن معادلات وتحالفات جديدة تتشكل فيها، وكذلك على الصعيد العالمي.
حيث الإدارة الأمريكية لم تعد شرطي العالم الذي يعاقب من يشاء ويثيب من يشاء، فعالم متعدد الأقطاب بات يتشكل، أقطابه الصين وروسيا إلى جانب الولايات المتحدة، وعلى الصعيد الإقليمي تترسخ ايران كقوة مقررة في شؤون المنطقة.
وبات لتركيا نفوذ ودور لا يستهان به في المنطقة والإقليم، في حين يتم إمداد دولة الإحتلال من قبل أمريكا ودول الغرب الإستعماري، بكل مقدرات القوة العسكرية المتطورة، والدعم مالياً واقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً وسياسياً وامنياً، لكي تبقى قوة مقررة ومتسيدة في المنطقة.
ولكن ما يجري من تغيرات وتحولات على الأرض، يثبت أن دولة الإحتلال لم تعد في مرحلة الهجوم، رغم كل التهديدات والإستفزازات والمناورات والتحصينات، والقبب الحديدية وصواريخ"الباتريوت" و"الثاد"، والخروقات المستمرة بحق السيادة اللبنانية جواً وبراً وبحراً.
بل تعيش في مرحلة الدفاع وأصبحت تحيط بها غابة من الصواريخ، إن التهويل والتهديد والترهيب والوعيد الإسرائيلي، لن يجدي ولن ينفع، فهو للإستهلاك الداخلي، ولاستيعاب المشاكل والأزمة السياسية الحادة، التي يعاني منها نتنياهو وزمرته من اليمين المتطرف.
ونحن نلمس ذلك من خلال ما سعت إليه الإدارة الأمريكية السابقة، لإقامة احلاف أمنية وعسكرية إستراتيجية ما بين دولة الإحتلال ودول النظام الرسمي العربي، عبر الفجور والهرولة التطبيعية لنظام رسمي عربي مهترىء، يعتقد بأن هذه التحالفات ستوفر لأنظمته الحماية من عدو افتراضي صورته لهم أمريكا، ألا وهو إيران، من أجل الإستمرار في إحتلال بلدانهم عبر نشر المزيد من القواعد العسكرية فيها، والاستمرار في "استحلابهم" مالياً،وتشغيل مصانع السلاح الأمريكية والأوروبية الغربية.
وبما يسهم في تنمية اقتصاد بلدانهم ورفاهية شعوبهم، في ظل استشعار مخاطر تلك التحولات التي تجري، والتي باتت تشكل خطراً وجودياً على دولة الاحتلال،حيث المثلث الثلاثي الأضلاع للوجود الأمريكي من المنطقة، السيطرة على النفط ونشر ما يسمى بالديمقراطيات، لم يعد قائماً فهناك طاقة بديلة ،وأمريكا لديها احتياط نفطي عالي.
أما قضية نشر الديمقراطية، ففي الانتخابات الأمريكية الأخيرة، ظهرت أكذوبة تلك المقولة وذهبت أدراج الرياح ولم يعد أحد يلتفت اليها، ولم يبق من أضلاع المثلث سوى دولة الإحتلال، وأهمية وجودها كقاعدة استعمارية في المنطقة، تمنع أي نهوض أو وحدة قومية عربية، وكذلك منع نمو واصطفاف مشروع عربي وإقليمي مقاوم في المنطقة.
ولذلك في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب جرى نقل "إسرائيل" من مجال القيادة الأوروبية للجيش الأمريكي، إلى القيادة العسكرية المركزية الأمريكية، والتي تشمل دول الشرق الأوسط الأخرى، بعد تطبيع العلاقات المتزايد بين "إسرائيل" والعالم العربي.
وستسمح هذه الخطوة بتعزيز تعاون أكبر ضد إيران، العدو الإقليمي الرئيسي لإسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول العربية.
الإدارة الأمريكية الحالية باتت على قناعة تامة بأن سياسة العقوبات القصوى التي مارستها الإدارة الأمريكية السابقة بحق طهران، بعد إنسحابها من الإتفاق النووي مع طهران من جانب واحد.
هذا الإتفاق الذي عرف باسم خمسة +1، ولتفرض بعدها سلسلة متواصلة من العقوبات الإقتصادية والتجارية والمالية والدبلوماسية والسياسية على طهران، والتي عرفت بما يسمى سياسة العقوبات القصوى، والتي أراد من خلالها المتطرف ترامب منع ايران من تصدير نفطها بالمطلق، بما سماه سياسة " التصفير النفطي".
ولكن تلك السياسة لم تؤت ثمارها، لا بخلق تمرد داخلي على القيادة الإيرانية، ولا زعزعة أمن واستقرار النظام فيها، ولا منعها من تصدير نفطها، ولتكشف تلك العقوبات بأن الدول الأوروبية التي هي جزء من الإتفاق بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والتي تعهدت بإيجاد آليات مالية واقتصادية، تسمح لطهران بتصدير ونفطها وإدارة معاملاتها المالية "نظام انستيكس"، أن هذا ليس أكثر من مناورة أوروبية غربية، وأن تلك الدول خاضعة في قرارها للقرار الأمريكي، ولم تعمل على تنفيذ أي شيء مما التزمت به.
مما حدى بإيران للقول بأن تلك الدول ليست أكثر من تابع لأمريكا، وعلى ضوء ذلك قررت القيادة الإيرانية تغيير قواعد اللعبة، حيث أعلنت عن زيادة تخصيب اليوارنيوم لنسبة تصل الى 20 %، وأنها بصدد الغاء البرتوكول الإضافي الخاص بالسماح لوكالة الطاقة الذرية بالتفتيش على المنشئات النووية الإيرانية.
الإدارة الأمريكية الحالية باتت مقتنعة بأن سياسة العقوبات القصوى التي إتبعتها الإدارة الأمريكية السابقة، والتي وصلت حد عدم الإفراج عن الأموال الإيرانية من أجل شراء معدات وأدوية من أجل مجابهة انتشار جائحة "كورونا"، ستقرب الى حد كبير من إمتلاك إيران للسلاح النووي، ولذلك قالت القيادة الإيرانية قإن فتوى الإمام خامينائي بتحريم انتاج السلاح النووي، قد تتغير في أي لحظة.
ومن هنا بدأت توابع أمريكا وشركائها وحلفائها في العقوبات فرنسا وبريطانيا وألمانيا بالتحرك، وتوجيه الإتهامات لإيران الملتزمة بالإتفاق، وتحذيرها من مخاطر الغاء البرتوكول الإضافي، وجرى اتصال هاتفي ما بين رئيسة وزراء ألمانيا ميركل والرئيس الإيراني حسن روحاني، تعهدت فيها ميركل بالبحث في خطوات عملية لرفع العقوبات عن طهران، التي قالت بشكل واضح: لا عودة للإتفاق النووي قبل رفع العقوبات.
وبناء على ذلك التقى وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا عبر تقنية "الزوم" مع وزير الخارجية الأمريكي لتدارس الموقف، وليعلن بعد ذلك الرئيس بايدن عن سحب الطلب الأمريكي الذي قدمته الإدارة الأمريكية السابقة إلى الأمم المتحدة بعودة فرض العقوبات الدولية كاملة على ايران،وتخفيف القيود على تحركات الدبلوماسيين الإيرانيين، والإستعداد لعقد لقاء مع ايران ضمن مجموعة ال 5 +1 لبحث الملف النووي الإيراني.
هذا الخضوع والخنوع الأمريكي للشروط والمطالب الإيرانية، ما كان له أن يتحقق لولا وجود قيادة ايرانية حكيمة وصلبة ومتماسكة، معتمدة على قاعدة وإرادة شعبية متينة.
وبالعودة الى التهديدات الإسرائيلية لبنان والمقاومة، وأن "إسرائيل" ستعيد لبنان إلى العصر الحجري، فالرد على تلك التهديدات الإسرائيلية جاء بعد خطاب السيد حسن نصر الله قبل أربعة أيام "كفى لعباً بالنار"، نحن لا نريد مواجهة أو حرباً لكن إن فرضتموها فسوف نخوضها، وإن قصفتم مدناً سنقصف مدناً، وإن قصفتم قرى سنقصف المستوطنات، وإن قصفتم المدنيين فشعبكم كله جيش احتياطي، وقد تواجهون وقائع لم تألفوها منذ 1948، ومن ثم بعد تواصل تلك التهديدات نشر الإعلام الحربي لحزب الله مشاهد باللغة العبرية تظهر مواقع عسكرية اسرائيلية في المدن.
كل هذه الوقائع والحقائق تقول بأن كلفة الصمود والمقاومة، أقل بكثير من كلفة الخنوع والإستسلام، وكل الفجور التطبيعي العربي الرسمي مع دولة الإحتلال، لن يشكل درع حماية لأمننا القومي ولا لاستقرار بلداننا، ولن يجعل منا أمة قوية ،بل كل ذلك سيزيد من نهب دولة الإحتلال وأمريكا وقوى الغرب الإستعماري لخيراتنا وثرواتنا، وسيعيدنا إلى الإحتلال المباشر ،وستصبح بلداننا مسرحاً للعمليات في أي حروب قادمة، وكذلك ستكون ممراتها البحرية محتلة، وستغرق شعوبها في المزيد من الذل والخنوع والفقر والجوع.