يُنشر بالتعاون مع "متراس".
في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2020، حطّت طائرةٌ مروحيّةٌ قادمةٌ من الأردن في مقرّ المقاطعة في رام الله، ثمّ غادرته بعد فترةٍ قصيرة. جاءت بعدها تغريدة لرئيس هيئة الشؤون المدنيّة، حسين الشيخ، أعلن فيها أنّ الزائر هو الملياردير اليهوديّ الأميركيّ رونالد لاودر Ronald Lauder، رئيس المجمع اليهوديّ العالميّ World Jewish Congress، وأنّه جاء تلبيةً لدعوة الرئيس محمود عبّاس.
بعد الزيارة بحوالي شهر، أعلنت السّلطة الفلسطينيّة استئناف التنسيق الأمنّي بعد أن كانت قد أوقفته "احتجاجاً" على مشروع الضمّ الإسرائيلي. دفع ذلك البعض إلى التخمين الأوليّ أن لاودر ساهم، بالإضافة إلى عوامل وأطراف أخرى، في دفع السّلطة للنزول عن الشّجرة. وأياً كانت التفاصيل، لم يكن ذلك اللقاء الأوّل بين لاودر وعبّاس، ولا المرّة الأولى التي ظهر فيها مبعوثاً لنقل رسائل أميركيّة وإسرائيليّة إلى السّلطة ودولٍ عربيّةٍ أخرى، فقد ارتبط اسمه على مدار السّنوات الأخيرة بملفات مختلفة في المنطقة مُحركها الرئيس تحقيقُ مصالح "إسرائيل".
يحاول هذا المقال تتبع دور لاودر من خلال التعريف بالمجمع اليهوديّ العالميّ الذي يرأسه، والنشاطات التي يقوم عليها.
أداةُ حربٍ واستيطان تحمل اسم "مجمع"
يُعرّف المجمع اليهوديّ العالميّ نفسه على أنّه منظمةٌ دوليّةٌ تجمع الجاليات والمنظمات اليهوديّة في العالم. أُسِّس عام 1936 في جنيف بهدف مواجهة تصاعد الفكر النازيّ في أوروبا. انتقل المقرّ لاحقاً إلى نيويورك، ويُعتبر اليوم أحد العناصر الفعّالة عالميّاً لتشكيل الضغط لصالح "إسرائيل"، ويضمّ تحت مظلته منظماتٍ ومقراتٍ في أكثر من 80 دولة. يُعبّر عن أهدافه بثلاثة محاور رئيسة؛ "تأمين مصالح الشعب اليهوديّ أينما تعرّض للتهديد"، و"الاعتراف بمركزيّة دولة إسرائيل للهوية اليهوديّة المعاصرة"، و"مكافحة نزع الشرعية عن إسرائيل".
منذ تأسيسه، تناوبت على رئاسته شخصياتٌ ذات نفوذ اقتصاديّ أو سياسيّ في المجتمعات الغربيّة، خاصّةً في الولايات المتحدة. الرئيس الحالي والذي يشغل المنصب منذ عام 2007، هو رونالد لاودر؛ ملياردير وريث لعملاقة التجميل إستي لاودر Estée Lauder. تجمعه علاقةٌ وثيقةٌ وقديمةٌ بنتنياهو، وعُرف بقربه من ترمب (مع ذلك، أبدى تأييده لجو بايدن فور انتخابه). كما عمل سفيراً لواشنطن في النمسا في عهد ريغان (1986)، وتقلّد منصباً رفيعاً في وزارة الدفاع الأميركيّة والناتو (1983-1986).
مؤسسه المشارك، ناحوم غولدمان، وثاني رؤسائه، الحاخام ستيفن صموئيل وايز، كانا شريكين لهرتزل ولاعبين أساسيين في دعم الصهيونيّة والحشد لتمويلها. وهكذا، منذ أيّامه الأولى، كان للمؤتمر دور في نكبتنا، فقد بدأ منذ عام 1936 بمطالبة بريطانيا بعدم اعتراض هجرة اليهود إلى فلسطين. وفي العام 1947، شارك المجمع بقوّة في الضغط على الرئيس الأميركيّ حينها، هنري ترومان، ليُقنع أعضاء الأمم المتحدة بالمصادقة على قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولةٍ يهودية.
كما قاد المجمع حملةً لتهجير أكثر من 800 ألف من اليهود العرب نحو فلسطين، تضمنت الضغط على الولايات المتحدة لتسريع هذا الملف خوفاً من "إبادة اليهود على أيدي المسلمين". استمرّت الحملة حتى خمسينيات القرن الماضي، أجرى خلالها المجمعُ مفاوضاتٍ مع عددٍ من الدول العربيّة، أبرزها الجزائر والمغرب وتونس، وانتهت بالسماح بهجرة عشرات آلاف اليهود منها. توسّعت الحملة لاحقاً لتشمل الضغط على الاتحاد السوفييتي للسماح بهجرة اليهود السوفييت في الثمانينيات.
المزيد من رعاية التطبيع..
عقب اتفاقيات التطبيع العربيّة الإسرائيلية التي شهدناها عام 2020، كان المجمع اليهوديّ من أوائل المحتفلين والمباركين. لكن ذلك لم يكن استثناءً، فعلى مدار سنوات، لعب المجمع دوراً واسعاً في الدفع نحو علاقاتٍ عربيّة إسرائيليّة علنيّة، من خلال مراكزه وفروعه النشطة في دولٍ عربيّة وإسلاميّة (بينها مصر وتركيا وتونس والمغرب وأذربيجان والبوسنة والإمارات والبحرين مؤخراً)، أو مساهمات رؤسائه شخصيّاً.
عمل رونالد لاودر مثلاً وسيطاً بين الحكومتين الأميركيّة والإسرائيليّة وعدة مسؤولين عرب، أحياناً بذريعة "حوار الأديان"، مثل اللقاء الذي جمعه بملك السعودية السابق عبد الله بن عبد العزيز (2008)، وأحياناً كثيرة في مهمّاتٍ رسميّة أو كمبعوثٍ عن ترمب، منها زيارات متكررة للبحرين والاجتماع بوليّ عهدها.
وفي القاهرة، يعقد لاودر لقاءاتٍ سنويّةً مع السيسي بحضور رئيس جهاز مخابراته اللواء عباس كامل. وفي دمشق، التقى لودر أواخر تسعينيات القرن الماضي بحافظ الأسد، مبعوثاً عن نتنياهو لمناقشة خطّته "للسلام" بين البلدين. أمّا في عمّان، فقد اجتمع لاودر عام 2010 مع مسؤولين أردنيين لتخفيف التوتر بين الأردن و"إسرائيل"، عقب سياسات الأخيرة في القدس وتوسيع الاستيطان، بالإضافة إلى الزيارات المتكررة للمقاطعة في رام الله.
في إطار تحقيق هذا الهدف لا يعمل المجمع بصفته الرسميّة فقط، بل يجنّد مؤسسة دراسات مقرّها القدس تعمل تحت جناحه دشّنها عام 1989، وتحمل اسم "المجلس الإسرائيلي للعلاقات الخارجية" (ICFR)، يتم من خلالها إصدار دراساتٍ دوريّة عبر "مجلّة إسرائيل للشؤون الخارجيّة"، وتستضيف في هذا الشأن رؤساء ومسؤولين دوليين. كما تنشط في "حوار الأديان" الذي تتخذه ذريعة لاختراق دولٍ مسلمة مثل إندونيسيا والبوسنة والهرسك (خلال جائحة كورونا أجرت المؤسسة لقاءاتٍ عبر زوم مع شخصيات مختلفة، منهم رئيسة جمعية إسلامية إندونيسية، وممثلة عن البوسنة والهرسك).
ثمّ المزيد من ملاحقة المقاطعين..
عقب جهود المجمع اليهوديّ هذه في فتح قنوات الاتصال الرسميّة بين "إسرائيل" وجيرانها والعالم، ليس مفاجئاً أن نعلم أنّ المجمع يركّز جزءاً غير بسيطٍ من عمله في تتبع عمل حركة مقاطعة الاحتلال BDS، ومحاربة نشاطاتها حول العالم وفي أميركا تحديداً.
في صيف 2016، نظّم المجمع بالشراكة مع البعثة الإسرائيلية للأمم المتحدة قمّةً لتباحث سبل التصدي لحركة المقاطعة. ومن على منصّة الأمم المتحدة في نيويورك، تحدّث لاودر عن أنّ "عداء إسرائيل هو عداءٌ لليهود وللساميّة"، معلناً أنّ "عهد اليهوديّ الهادئ الخجول قد انتهى". خلال حديثه ذلك، حثّ طلبة المدارس والجامعات أن يعملوا كالمخبر، وأن يراقبوا زملاءهم وأساتذتهم الذين يُظهِرون ميلاً أو دعماً لحركة المقاطعة، وتعهّد بأنه سيشن حملةً يدفع بها خريجي تلك المدارس والجامعات إلى وقف تبرعاتهم للمؤسسات الأكاديميّة التي لا تتخذ إجراءاتٍ ضدّ المتعاطفين مع حركة المقاطعة.
وقبل نشوء حركة BDS دأب المجمع على ملاحقة أيّ توجّهٍ أو دولةٍ أو أفرادٍ يقاطعون دولة الاحتلال. هكذا مثلاً، نشط المجمع عام 1975 لإلغاء قرارات المقاطعة التي اتخذتها جامعةُ الدول العربيّة ضدّ "إسرائيل" منذ النكبة، عبر تفعيل حراكٍ قانونيّ في جنيف والتهديد بمحاكمة الدول العربيّة بتهم مخالفة قوانين التجارة الحرّة. ولا تقف حدود ملاحقة المجمع عند العرب أو الفلسطينيين، بل تشمل التنديد والسخرية والاتهامات بـ"النفاق" لأيّ دولةٍ مهما كان وزنها، لأنها فقط تدعو لمقاطعة الاحتلال اقتصاديّاً.
ينشط المجمع أيضاً في محاربة الفلسطينيين رقميّاً، ويُغرق منصات التواصل الاجتماعي الكبرى برسائل وطلباتٍ وعرائض، يُهمَلُ بعضها وينتُج عن بعضها الآخر حذف محتوى وحساباتٍ فلسطينيّة لمختلف الأسباب وتحت أبسط الذرائع. ومؤخراً، نتج عن هذا التواصل المستمرّ اتحاد المجمع مع "فيسبوك" لمحاربة المحتوى "المعادي للسامية"، وتوجه "فيسبوك" لحظر الحسابات والأشخاص بدعوى "إنكار المحرقة".
ملاحقةٌ بحُجّة التعويضات
رفع المجمع كذلك لواء تعويض اليهود عن ممتلكاتهم التي تركوها وراءهم قبل الهجرة للاستيطان في فلسطين. في التسعينيّات شارك المجمع بتأسيس "المنظمة اليهوديّة العالميّة للتعويضات (WJRO)". نتج عنها تشكيل 17 دولة أوروبيّة لجاناً خاصّة للتحقيق في ممتلكات اليهود بعد الحرب وصناديق لتعويضهم. ومن نتائجها كذلك: إنشاء صندوق تعويضات بقيمة 5 مليار يورو من ألمانيا، وإجبار البنوك السويسريّة على توزيع أكثر من مليار دولار كتعويضات.
وفي 2002، شارك المجمع بتأسيس "منظمة العدالة لليهود من الدول العربيّة" (JJAC)، التي تطالب اليوم كلّ من إيران، ليبيا، تونس، المغرب، العراق، سوريا، مصر، اليمن، الجزائر ولبنان، بمبلغ 250 مليار دولار كتعويضات لليهود عن ممتلكاتهم التي تركوها هناك بعد أن هاجروا لفلسطين.
ذراع ممتدة في الأمم المتحدة
لا تدّخر دولة الاحتلال أيّ جهدٍ للتأثير والضغط لتثبيت أركان كيانها ومصالحه في العالم. وفي إطار هذا السعي، لم توفّر منصّةً هامّة مثل الأمم المتحدة، فاستثمرت فيها وضخّت جهداً دبلوماسيّاً عبر أذرعها الرسميّة وغير الرسميّة، ومنها المجمع اليهوديّ.
يعتبر المجمع اليهوديّ من أبرز داعمي تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، بالإضافة إلى تمتّعه بوضع "استشاريّ خاص" لدى المجلس الاقتصاديّ- الاجتماعيّ للأمم المتحدة ECOSOC. وداخل أروقة المنظّمة الدوليّة، ينشط المجمع في إحباط أيّ قراراتٍ تتنافى مع مصلحة الاحتلال. منها إلغاء القرار رقم 3379 عام 1991، الذي اعتبر "الصهيونية شكلاً من أشكال التمييز العنصريّ". كذلك اعتراض أبسط قرارات المنظمة التي "تتعاطف" مع الفلسطينيين، مثل مشروع قرارٍ في لجنة المرأة لعام 2019 يسلّط الضوء على معاناة النساء في فلسطين، فبعد أشهرٍ من الضغط نجح المجمع في عرقلة التصويت على مشروع القرار.
وفي إطار هذه العلاقة يحرص المجمع على الاستضافة الدوريّة لشخصياتٍ بارزةٍ في الأمم المتحدة، في مقدّمتها أنطونيو غوتيريش، الذي كان في 2017 أوّل أمينٍ عام للمنظمة يلقي كلمةً أمام المجمع اليهوديّ. ومن هناك، أعلن أنّ "إنكار وجود إسرائيل شكلٌ حديثٌ لمعاداة الساميّة"، وتعهّد أنّه "سيكون في الخطوط الأماميّة" لمكافحة هذا السلوك. وهو ما فعله لاحقاً بتبنيّ حملات المجمع والتأكيد المتكرر على أهميّة "معاداة الساميّة"، ليستحقّ بنظر المجمع أرفع جائزةٍ يمنحها، جائزة "ثيودور هيرتزل"، التي مُنحت له نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
وأخيراً..
عندما يتعلق الأمر بتحقيق مصالحه وإعلاء صوته وفرض قوّته، لا يخجل الاحتلال ولا أذرعه من ممارسة الكذب والمراوغة والاستقواء والتآمر، والتذرّع بمعايير مزدوجة والعمل "عريفاً" على صفّ الكوكب؛ يلاحقون الدول والمنظمات والأفراد على كلّ كلمةٍ وإيماءة، يهاجمون ويضغطون ويرفعون التقارير، ويمارسون أشكالاً من "الزنّ" والإغراق بالعرائض والرسائل والشكاوي دون كللٍ حتى الوصول إلى الهدف المرجوّ منها.
لكنّ هذا الجهد والتأثير، كان سيخسر كثيراً من "سحره" وتأثيره وفاعليّته، لو لم تخضع له أطرافٌ رسميّةٌ في المنطقة، ولم تقبل أن يتم ابتزازها عبر أدوات "إسرائيل" الثانويّة. فترامب ونتنياهو لم يكونا ليبتعثا رونالد لاودر عنهما في قضايا مفصليّةٍ وحسّاسة، لو لم يعلما يقيناً أنّ في رام الله ودمشق وعمّان والقاهرة والمنامة (وفق ما أعلن عنه رسميّاً على الأقل) من يستقبل لاودر بحفاوة، بل وحتى يستدعيه ويقبل تدخلّه ويستمع لتوجيهاته! ليُصبح لمنظمةٍ مثل المجمع اليهوديّ ورئيسها وزنٌ أكبر، وينفخ حكّامُ المنطقة مزيداً من الهواء في بالون التحريض والكذب الصهيونيّ المتضخّم.