على شاكلة البيانات والأحكام العرفية الصادرة في الأنظمة الدكتاتورية، أصدر مجلس القضاء الأعلى المشكل على خلاف أحكام الدستور والقانون يوم أمس 14/02/2021، بياناً اتهم فيه محامين بما أسماه التطاول على السادة القضاة والهتاف ضدهم في محكمة بداية وصلح طولكرم، وهدد المجلس في بيانه وتوعد بأنه لن يسمح بتكرار تلك الأحداث، وأن هيبة السادة القضاة وكرامة المتقاضين خط أحمر.
وفي وقت متأخر من مساء هذا اليوم 15/02/2021، نشرت صفحة المركز الإعلامي القضائي على موقع "فيسبوك" بياناً نسب لرؤساء المحاكم النظامية المحترمين، استنكروا فيه أحداث محكمة طولكرم، وعبروا عن دعمهم لرئيس مجلس القضاء الأعلى وما يتخذه من إجراءات للنهوض بالسلطة القضائية تحت رعاية السيد الرئيس محمود عباس لمسيرة إصلاح القضاء وفقاً لما نشر، وعبروا عن استيائهم الشديد من التحريض الذي يتعرض له رئيس المجلس على وسائل التواصل الاجتماعي، وقالوا إن لهم ملاحظات على القرارات بقانون المقوضة لاستقلال القضاء داعين للحوار بشأنها؛ أي أنهم يقرون بدستوريتها مبدأياً وأن ثمة ملاحظات طفيفة عليها دعونا نناقشها، بالرغم من أن الجميع متفق على أنها من أولها لآخرها قوانين سيئة وسيئة جداً. من المؤسف حقاً أن قضاة أقسموا على احترام وحماية الدستور والقانون أن يقروا بشرعية قوانين تتنكر لحكم الدستور ويعلنون دعمهم لأجسام وأشخاص وإجراءات غير دستورية في الوقت الذي كنا ننتظر منهم أن يضطلعوا بمسؤوليتهم في الذود عن استقلال القضاء بأنفسهم، ولكن هذه هي الحالة المتوقعة من قوانين الترهيب والترغيب للقضاة الأفراد والتي ترفضها نقابة المحامين، وهذا ما يؤكد بدوره أهمية استمرار حراك نقابة المحامين لإلغاء القرارات بقانون.
جاء بيان المجلس غير الشرعي ولاحقاً له بيان رؤساء المحاكم النظامية في أعقاب بيان مجلس نقابة المحامين المنتخب بانتخابات حرة، والذي أعلن فيه مجلس النقابة تعليقاً شاملاً للعمل أمام جميع المحاكم النظامية ليوم واحد احتجاجاً على قيام أحد السادة القضاة في محكمة بداية وصلح طولكرم، بمحاكمة متهمين دون حضور وكلاء دفاعهم الملتزمين بقرار مجلس نقابتهم بتعليق العمل أمام المحاكم رفضاً للقرارات بقانون المقوضة لاستقلال القضاء.
هذه حالات نادرة لا تحدث كل يوم، صحيح أنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، إلا أنها تبقى حالة نادرة جداً لا بل غير مسبوقة؛ بيان رؤساء المحاكم النظامية المذكور أعلاه، وتبقى حالة نادرة أيضاً أن يقوم السادة القضاة بشطب قضايا المحامين أو محاكمة متهمين بدون حضور وكلائهم بسبب التزام المحامين بقرار مجلس نقابتهم بتعليق العمل ضمن احتجاجات وفعاليات نقابية. وقد تبين لاحقاً أن القاضي الذي حاكم المتهم بغياب وكيل دفاعه لم يكمل فترة التجربة التي نص عليها القرار بقانون المعدل لقانون السلطة القضائية والتي تمتد لثلاث سنوات من تاريخ تعيينه يكون للمجلس القضائي خلالها إنهاء خدماته لعدم الصلاحية، وتبين أيضاً أنه اتخذ نفس هذا الإجراء في عدة ملفات سابقاً وأثناء سريان فعالية النقابة بتعليق العمل.
ذكرني بيان المجلس القضائي للوهلة الأولى بالبيان الذي أصدرته المحكمة الدستورية بتاريخ 30/11/2020 عقب قراراها بفصل موظفتين في المحكمة، كنَّ قد تقدمنَّ في وقت سابق من العام 2019 ببلاغات إلى هيئة مكافحة الفساد عن وجود شبهات فساد في المحكمة الدستورية. ففي ذلك البيان أيضاً، توعدت المحكمة الدستورية وبصفتها الاعتبارية كما أسمتها بالملاحقة القانونية لكل من يقوم بتضليل الرأي العام من أفراد ومؤسسات بشأن القضية المذكورة... يعني أن تنتقد قرار إدانة الموظفتين، فهذا يعني أنك قمت بتضليل الرأي العام، وهذا بحسب بيان "محكمة حماية الدستور" كافٍ لملاحقتك الجزائية وتقديمك للمحاكمة.
تشترك البيانات المذكورة بالإضافة إلى استخدامها ألفاظ غريبة على الحكم المدني الديمقراطي من قبيل التهديد والوعيد ورسم للخطوط الحمر والملاحقة الجزائية، في أنهما صدرا عن الجهات المسؤولة عن حماية مبدأ سيادة القانون وسمو الدستور، وهن في الوقت ذاته، مشكلتان ويمارسن العمل العام ويحكمن باسم الشعب على خلاف حكم الدستور والقانون وعلى خلاف إرادة الشعب، ليس هذا فحسب، مثل هذه البيانات أو التصريحات في الأنظمة الدكتاتورية تصدر في العادة عن الحاكم العسكري أو قائد الشرطة وفي أحسن الأحوال تصدر عن السلطة التنفيذية أما أن تصدر عن قضاة فهذا أمر عجيب! وكأن السلطة القضائية مثلها مثل السلطة التنفيذية لديها وسائل عنف وقوة جبرية تمكنها من تنفيذ قراراتها وتهديداتها قهراً وجبراً.
أعتقد أن السبب في استمرار تصدر المجلس القضائي للمشهد الحالي وتعليقه على جميع الأحداث والتطورات المواكبة لاحتجاجات نقابة المحامين من خلال صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك" أول بأول، ورفعه العيار قليلاً هذه المرة كما حصل أمس في بيانه واستفزازه للمحامين بتأكيده من جديد على أن المحاكم تعمل كالمعتاد متجاهلاً قرارات مجلس النقابة بتعليق العمل، يرجع إلى محاولة المجلس تحييد السلطة التنفيذية، وتحديداً رئيسها، مصدر القرارات بقانون عن المشهد الحالي المتأزم، وفي المقابل، تصوير حراك نقابة المحامين بأنه مشكلة صغيرة بين المحامين والقضاة ولا علاقة للمواطنين الذين أرهقتهم طول إجراءات التقاضي بهذه المشكلة الصغيرة، بينما الحقيقة أن هذا الصراع هو صراع على المبادئ والقيم الدستورية وبعيداً كل البعد عن الشخصنة، تطالب فيه نقابة المحامين بإعمال صحيح القانون واحترام الدستور، بينما تسعى السلطة التنفيذية إلى إحكام سيطرتها على القضاء ومأسسة هذه السيطرة من خلال قوانين صدرت باسم الشعب العربي الفلسطيني.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يسعى فيها المجلس القضائي والسلطة التنفيذية للنيل من حراك نقابة المحامين ومحاولة تسفيهه والتقليل من شأنه، فما زالت محاولاتهم مستمرة في تصوير الحراك للمجتمع المتفرج حتى الآن، أنه مرة مشكلة تنظيمية داخل حركة فتح، ومرة أخرى بأنه صراع شخصي، أو أنه حراك مطلبي للمحاميين من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية ليس أكثر، ولعل الإفراج قبل أيام عن الطلب التفسيري المقدم من وزير العدل إلى المحكمة الدستورية لتفسير نصوص قانون نقابة المحامين النظاميين وأنظمة السندات العدلية التي أقرتها الهيئة العامة للمحامين في العام 2009، دليل واضح على ذلك.
إن الإفراج عن الطلب في هذا الوقت بالذات لا يهدف فقط إلى الضغط على مجلس النقابة لثنيه عن مطالبه باعتبار أن إلغاء نظام السندات العدلية يفقد المحامين أهم مصادر دخلهم، ولا إلى تأليب المحامين ضد مجلس نقابتهم، بل يهدف أيضاً وبصورة أساسية إلى حرف الحراك عن هدفه الرئيسي أو على الأقل تصويره للجمهور بأنه حراك لتحسين الأوضاع المعيشية، وليس له علاقة بمبادئ النظام الدستوري وقيمه، مستفيدين في ذلك من غضب المحامين على تقديم الطلب المذكور. هذا هو الخداع بعينه، والكلمات المكتوبة هنا هي للقول إن الخداع لا ينطلي على الجميع كما أنك لا يمكن أن تخدع الناس طول الوقت. وهنا يعلق المحامي غسان مساد عضو مجلس نقابة المحامين الأسبق على الطلب التفسيري المذكور قائلاً: "محاولة إفهام الناس أن احتجاجات نقابة المحامين لغايات مادية شخصية (السندات العدلية) محاولة خسيسة لإسكات صوت المحامين في الدفاع عن استقلال القضاء... الرزق على الله".
وما أود قوله بخصوص مسألة شخصنة الحراك تحديداً، هو أنه صحيح أن أعضاء في المجلس القضائي الحالي مسؤولين شخصياً عمَّا آلت إليه الأوضاع الآن، وصحيح أن ثمة أشخاص آخرين سوف يستفيدون من حراك نقابة المحاميين لمصالحهم الشخصية كما أي حركة اجتماعية أخرى، إلا أنه لا هذا ولا ذاك يجب أن يكونوا سبباً في شخصنة القضية وحرف البوصلة عن المشكلة الحقيقية وهي القرارات بقانون المقوضة لاستقلال القضاء، وهذا هو باعتقادي أحد أهم المؤشرات على اقتدار مجلس نقابة المحامين في إدارة الأزمة حتى الآن، فالتركيز على إلغاء القرارات بقانون المقوضة لاستقلال القضاء، يربك المجلس القضائي والسلطة التنفيذية ويزعجهم كثيراً، لأنهم لا يريدون أن يكون ثمة حراك مبدأي أو قيمي هم مستعدين فقط على مضض لقبول حراك معيشي. طبعاً وفي جميع الأحوال فإن مسألة عدم الشخصنة، لا تعني عدم مساءلة الأشخاص المسؤولين عن انتهاك الدستور.
لسنا هنا بحاجة مرة أخرى إلى بيان خطورة القرارات بقانون على مبادئ النظام الدستوري الديمقراطي "أصل المشكلة والصراع"، ولكن للتذكير، فإن تلك القرارات تقوض استقلال القضاء المؤسسي والفردي على نحو يهدد حقوق الأفراد وحرياتهم، ويكفي أنها عبثت بأحد أفضل قوانين التنظيم القضائي في العالم العربي ونالت منه بصورة أفرغته من مضمونه الذي يجب أن يكون عليه. لذلك، وإن انطوت فعاليات نقابة المحامين على أضرار وقتية على المحامين والمتقاضين على حد سواء نتيجة تعليق العمل، إلا أن الضرر المترتب على الاستسلام للقرارات بقانون، لهو ضرر كبير ومستمر وعام -على الجميع-، والصورة ليست كما يقول المجلس القضائي بأن هذا الحراك يمس كرامة المتقاضين، لأن الحقيقة أن كرامة المتقاضين وحقوقهم تم النيل منها في إصدار القرارات بقانون المذكورة خلسة وعلى حين غرة، كما أن حفظ كرامة المتقاضين لا تكون بإجراء محاكمتهم في غيبة وكيل دفاعهم، فالبيان المذكور فيه إقرار واضح وصريح بأن ثمة انتهاك لحق طبيعي قد وقع فعلاً، وهو حق الدفاع، وهو سبب وفلسفة وجود مهنة المحاماة التي لا يمكن أن تؤدي رسالتها أمام قضاء غير مستقل.