قلقيلية- خاص قُدس الإخبارية: أسبوعٌ مرَّ على استشهاد الأسير ماهر سعسع في زنازين الاحتلال، الحزن ما زال يثير الوجع في قلب ابنته رانيا، اتصال هاتفي يمنحها فسحة للهروب من صدمتها ما إن ردت على المكالمة: "معك دكتور .. من مستشفى أبو كبير"، تخيلت في نفسها أن يحمل لها الطبيب بشارة بأن الحياة قد عدلت عن قرار مفارقة جسد والدها، لكن لدى المتصل شيء آخر: "خلصنا تشريع الجثمان" أخرجها من بارقة الأمل حاولت التعلق بها: "هل أنتم مستعدون لاستقباله؟".
"استقبال؟" .. كلمة طارت بمخيلتها لأعلام وزغاريد وذراعين تفردهما لتعانق والدها بعد أسر دام خمسة عشر عامًا، وتحضنه للمرة الأولى، لتخبره كم كان وقع غيابه صعبًا وقاسيًا ومريرًا، قبل أن تعود للحقيقة التي لا مفر منها، بدمعةٍ وصل صداها المتصل، تشد أحبالها الصوتية المثقلة بوجع الفراق وحجم القهر الذي تعيشه: "صحيح مستعدين جهزنا كل شيء".
اعتقل الاحتلال الأسير الشهيد ماهر ذيب سعسع (45 عاماً)، من محافظة قلقيلية شمال الضفة، في 2006 وحكم عليه بالسجن 25 عامًا، وعانى أمراضا متعددة تركها الاحتلال تنشه جسده عاما تلو الآخر، تجاهل سجانوه بسجن "ريمونيم" استغاثته الأخيرة، اثر تشنج يديه بعد أن حقن بلقاح ضد فيروس "كورونا"، وارتفعت حرارته إلى 40 درجة مئوية، لتتحرر روحه من أغلال السجون شهيدًا.
مراسم مختلفة
وقفت رانيا تنتظر والدها؛ نبضات قلبها تعزف ألحان الوجع، تخفق بشوق بدأ يمزق عباءة الانتظار لهذه اللحظة التي تمنت أن تكون مراسمها مختلفة، تحاول ترميم جراحها من جديد، والاستعانة بصبر يحفظ تماسكها واحتراق وجع يضرم نارًا مستعرةً بداخلها، تريد منع دموعها من التساقط، كي لا يشكل ستاراً سيحجب رؤية والدها، تريد طبع صورته الأخيرة وحفرها في مخيلتها دون أي غبش أو دموع، هكذا كانت تظن.
توتر قلبها أصبح على هيئة رجل ترتجف أطرافه، اقتربت أصوات المشيعين من باب المنزل يرددون "لا إله إلا الله .. الشهيد حبيب الله"، تتعالى الأصوات أكثر كلما اقتربت: "زفوا الشهيد بدمه .. ألف تحية لأمه" ينشدون لأمه التي انتظرت ابنها الوحيد طويلاً إلى الضفة الأخرى من الأمل إلى أن توفيت العام الماضي، رحلت تجر حسرتها وبثها، تمني النفس أن تكحل عينيها برؤيته مرة واحدة خارج الأسر.
دخل والدها أخيرًا عتبات البيت الذي غادره قبل خمسة عشر عامًا، يومها لم يزد عمر رانيا عن سبع سنوات، الموت وحده الذي استطاع تحرير روحه وجسده من أغلال السجون، تحرر قبل عشر سنوات من انتهاء محكوميته البالغة 25 عامًا، تنظر رانيا إلى جثة والدها الممددة أمامها كسكون الملائكة وهدوء المسنين بلا روح، يشع وجهه نورًا كسماء صافية في يوم مشمس معتدل، تلمس وجهه بيديه تحاول حفظ تفاصيله.
تمنت لو كان المشهد، أن يدخل على قدميه وتعانقه عناقًا طويلاً تسمع نبضات قلبه، وتخبره عن حجم شوقها لها، لتخبره "كم كانت طويلة وقاسية الأعوام الخمسة عشر، وكم وكم مما اختزنته من كلمات وجمل كانت ستبوحها له.
مشاعر تجمعت فيها كل خصال الحزن، تهاوت دمعاتها واحدة تلو الأخرى وتساقطت بسهولة على جثمان والدها تعانقه هذه المرة بدمعات لم يشعر بها، فكان ذرات التراب الأخيرة التي غسلت بها روحه الطاهرة.
إهمال طبي متعمد
"يمارسُ الاحتلال إهمالاً طبيًا على جميع الأسرى، كان أبي أحد الأسرى المنسيين هناك، رغم معاناته أمراضًا متعددة، كالقلب وارتفاع ضغط الدم، كثيرًا كان ينقل للمستشفى ويعيدوه بنفس اليوم، فتراكمت الأمراض".
"تخيل لا يعطوه سوى كبسولة ويعاد لزنازين أو غرفة السجن" لم تجف دمعات رانيا التي تساقطت على الجانب الآخر من الهاتف، بينما أنصت لباقي التفاصيل: "ملف أبي الطبي كامل عندهم، ليلة استشهاده، طلب من السجانين أكياس ثلج لشعوره بتشنج يده بسبب حقنة اللقاح المضاد لفيروس "كورونا"، وصباح يوم استشهاده أخبرهم أن حرارته مرتفعة تزيد عن 40 درجة مئوية".
ينقذف صوتها كرصاصة غاضبة: "أعطوه حبتي أكامول كالعادة وعاد إلى غرفته يجر ألمه ووجع حتى استشهد بسبب الإهمال الطبي".
انتظرت رانيا والدها بفارغ الصبر لينتهي من محكوميته، وتراه أمامها، دائما كان يقول لها: بس أطلع راح أعوضكم عن سنوات الغياب"، تركهم ستة أطفال صغار كانت هي أكبرهم (سبع سنوات) وأصغرهم رضيع لم يزد عن أربعة أشهر، دائمًا يعطيها أملاً باقتراب الفرج: "راح نزور يا رانيا، كل مناطق فلسطين، والمناطق اللي كنت فيها مطارد".
"هذه السنة كان أمله كبيراً بأنه سيخرج" يتحشرج صوتها: "دائما ما يقول: قربت .. آخر فترة إن شاء الله".
لن يتصل الساعة العاشرة
20 يناير/ كانون ثاني 2020، تاريخ لن تنساه رانيا، تطفو تفاصيله على حديثها: "كنت أجهز نفسي لزيارة بيت خالتي، تعودنا أن يتصل بنا الساعة العاشرة صباحاً أو الثانية ظهراً، في ذلك اليوم لم يرن، لكن لم نلق بالاً لذلك، واعتقدت أنه قد يكون متعبًا، أو مريضًا، حتى بدأ يجتاحني الخوف بعد الثالثة عصرًا، بأن يكون قد أصابه مكروه، ثم تواردت الأنباء بأنه أدخل للمسشفى، إلا أن دخل أخي البيت بصوت يصرخ: "بابا مات .. بابا مات"، حاولت تكذيبه: "لا؛ هسا برن" أحاول التعلق بشقةِ أمل إلى أن تأكد الخبر".
ثم تعود رانيا بالذاكرة ليوم اعتقال والدها، وبين الأسر والاستشهاد مسافة طويلة من المعاناة، تنهدت زافرة طبقة الألم المتيبسة على قلبها: "السابع من فبراير/ شباط 2006، تاريخ لم يمح من ذاكرتي بكل تفاصيله، مساءٌ باردٌ، من ليالي الشتاء، كنت نائمة، في ساعة متأخرة، دخل أبي البيت وأوشك على النوم، قبل أن نفزع على صوت قرع شديد لباب المنزل أوشك على خلعه، هم أبي للهروب، لكن والدتي طلبت منه أن يفتح الباب ولا يهرب".
كانت رانيا ابنة السبعة أعوام تقف خلف ظهره، ما أن فتح الباب اختلست نظرة من جانبه اليمنى لترى نحو عشرة جنود يشهرون بنادقهم تجاههم، سرعان ما عادت لتحتم بوالدها، "يومها فتشوا المنزل، وأجلسونا في البرد على درج البيت، نسمع أصوات تكسير وكأنها معركة، حتى هدأت الأصوات بعد ساعة، وقيدوا والدي".
لم تكن تعي في ذلك الوقت أن والدها سيغيب فترة طويلا ولن تراه مجدداً في الحرية، لأول مرة شاهدت دمعة والدتها وجدتها، فقد كانت تنتظر أن يعود ليقرأ لها قصص ما قبل النوم، ويضحكها، مرت بمخيلتها مشاهد وهي تركض طفلة خلف سيارته ليأخذها معه، "حاول تعويضنا عن ذلك حتى وهو بالأسر، فكان يقرأ قصصاً أثناء زيارتنا له ويضحكنا ليرى ابتسامتنا".
تخرجت رانيا من الجامعة، بمعدل جيد جدًا، عملت على تطوير نفسها وتدربت وتطوعت في أماكن ووسائل إعلامية، ولديها حلقتان ببرنامج "برا المألوف" يذاع عبر تلفزيون فلسطين، ابتسامة دافئة عبرت حديثها: "بابا الله يرحمه، كان يستنى ليشوفني فيهم، لصاحبوا: بنتي رح تطلع عالتلفزيون عشان اتفرج عليها، وكنت موصية انهم يكتبوا اسمي ثلاثي حتى ينبسط".
"انتِ حتكوني شيء كبير والك مستقبل"... أمل وحلم والدها حملته رانيا في حياتها، تركها في السابعة من عمرها تحمل مسؤولية وحملاً ثقيلاً، مرت بمراحل مختلفة، يومٌ يطوي يومًا، تمر مراسم أفراح كثيرة، الثانوية العامة، وتخرجها من الجامعة تنظر حولها، تجد الآباء يزينون مراسم احتفاء الزملاء بتفوق الأبناء، إلا هي، لكن لا بأس، كان صوت الفرح القادم من الهاتف لوالدها، كفيلاً بغمرها بالسعادة.