غزة – خاص قدس الإخبارية: ألقى محمد ريان (39 عامًا) نظرته السابعة على عقارب الساعة التي وصلت في دورانها دون تكاسل عند الثانية عشرة والنصف ظهرًا قبل أن يضع في فمه لقمة الغداء الأولى؛ بدأ القلق يمزق عباءة انتظاره فهي المرة الأولى التي يتأخر فيها نجله عطا الله (17 عامًا) الذي قدم امتحان مادة التكنولوجيا في الثانوية العامة عن القدوم للورشة (تختص بصناعة الرخام)، قبل أن يكسر صمته متوجها بنظره نحو نجله الآخر عبد الناصر: "اتصل في أمك واسالها عن عطا الله؛ ليش تأخر؟".
على باب الورشة يتحرك نجله الآخر نصر الله بتوتر على هيئة رجل ترتجف أطرافه لفتت حركاته المكوكية جيئة وعودة والده: "مالك؛ في ايش؟"، أومأ الابن الذي لم تستطع حباله الصوتية اخراج كلماته برأسه كإشارة بعدم وجود شيء، قبل أن يأتي في المرة الثانية يجر صوته المرتجف صارخًا: "هدا عطا الله .. هدا عطا الله .." قاطعه والده بفزعٍ تجمع في ملامحه الهول: "عطا الله؟ .. ماله؟"، خرج نجله التفاصيل دفعة واحدة: "اليهود طاخينه، هيهم منزلين صورة على الفيس، امي بعتتلي اياها، وحكت انه نفس الملابس اللي لابسهم اخوي".
الأب الذي ينظر مشدوهًا، يحاول التعلق بقشة أمل تحدث نوعًا من التفاؤل: "اللي صنع ملابس أخوك صنع غيرهم"، تحول اندهاشه لأوامر لنصر الله: "خليك بالورشة"، وطار مسرعًا، ركب سيارته واخرج الهاتف من جيبه ليجد كما من المكالمات الهاتفية الواردة والتي لم ينتبه لها، قبل أن يتحرك اتصل بأحدها، ينصت لصوت يجهل رقمه قادم من سماعة الهاتف: "معك الارتباط الفلسطيني برام الله، المدير كان بده اياك"، دون أن يوضح له أية تفاصيل أخرى.
تركه غارقًا في بحر مخاوفه، التي بدأت تتساقط عليه من كل حدب وصوب، لم يستطع حتى الامساك بمقود السيارة، فاستعان بصديق ليقله لمكان الحدث الذي وقع الثلاثاء الماضي.
طوت السيارة الطريق في أقل من عشرين دقيقة، وصلت المفرق الذي يربط محافظات رام الله وسلفيت ونابلس، ليجد والد عطا الله جنودا وضباطا من جيش الاحتلال يتجمعون في المكان دون أي أثر لنجله.
حاجز الموت
عبر طرف سماعة الهاتف الأخرى، يزيح والد عطا الله لشبكة "قدس" الإخبارية الستار عن التفاصيل، نقلا عن شاهد عيان تواجد بالمكان روى له ما حدث، وأنت تسمع التفاصيل عليك أن تنصت بقلبك لصوت وجعٍ يخرج من أب مكلوم يحاول اظهار صلابته وتماسكه بداخله مسافة طويلة من القهر: "عطا الله، طالب مجتهد، كعادته صلى الفجر بالمسجد وذهب لتقديم امتحان مادة تكنولوجيا المعلومات الساعة السابعة والنصف، وذهبت للعمل، ثم عاد للمنزل بعد ساعتين ونصف استبدل ثيابه، وأخبر أمه أنه قدم الامتحان بشكل جيد، وخرج الساعة الحادية عشرة صباحًا، وأخبر والدته انه قادم للورشة لمساعدتي وهو يفعل ذلك منذ مدة طويلة ونعود سويًا للبيت عصرا".
يطفو بقايا المشهد على حديثه: "انزلت سيارة أجرة ابني – كما أخبرني شاهد العيان – على الجهة اليمنى من الشارع، ويجب عليه أن يجتاز خط المشاة ليتوجه برفقة سيارة أخرى لنابلس".
عطا الله الذي أنهى تقديم امتحان "التكنولوجيا" وضع أولى قدميه على خط المشاة، يشع نور وجهه في بقعة الظلام تلك، في المشهد عينان تنظران إلى الحياة وإلى الفضاء الواسع، يحمل حلمه على كتفه وفي قلبه، تلمع منه نظرة مترعة بالأمل، تتوهج منه ابتسامة مشرقة وضحكة بيضاء صافية مثل سماء في يوم معتدل، يتغنى للحياة، وعلى الطرف الآخر كان هناك من يجهز له كفن الموت له.
عبر خط الهاتف، تنص لتنهيدات الألم والحسرة وكومة مشاعر حزينة تملأ قلب والده الصلب ظاهرًا والمهشم من الداخل وكأن زلزلا ضربه وهدم أعمدة التماسك فيه: "بينما بدأ نجلي يقطع الطريق، بدأت الاشارة الضوئية للمفرق تنبه بفتح الاشارة الحمراء، فأسرع في خطواته".
"آاااه" تنهيدة مقهورة قاطعت حديثه ثم سلك الكلام طريقه "بكل سهولة أطلق عليه جندي إسرائيلي يقف على مكعب اسمنتي الرصاص عليه، ثم قام جنديان بسحبه وضربه على رأسه بالبنادق وهو مضرجٌ بدمائه، بكعب البنادق حتى أزهقوا روحه".
عطا الله من بلدة قراوة بني حسان غرب سلفيت، الطالب في الثانوية العامة، سقط حلمه بأن يصبح شرطيًا على حاجز" الموت" (مفرق حارث الذي يضرب سلفيت مع نابلس برام الله) ، هناك لا تعرف إلا لغة الموت والقتل، الجنود دائما مستعدون لإطلاق النار على الفلسطيني لمجرد مروره من جانب نقطة عسكرية أو قرب جنود منتشرين على مفترقات الطرق في الضفة الغربية، ما فعلوه مع عطا الله سبقوه مع عشرات الشهداء الذين قتلوا بدم بارد.
"منذ ثلاثة أعوام يساعدني بعدما يعود للبيت ويأتي للورشة، في السنة الأخيرة كان يترك هاتفه في البيت لتركيزه الكبير في الثانوية العامة".
حوار ملتهب
خمس دوريات إسرائيلية، ترافقها ناقلة جند، وصلت قلب بني حسان الساعة الثالثة عصرا، حتى وصلوا إلى والد عطا الله الذي يجيد اللغة العبرية، تقابلت العينان، الضابط أمام والد الشهيد الذي يتقاذف الغضب من عينيه.
"وين عطا الله .. وين تلفونه؟" ضابط المخابرات كسر حاجز الصمت بسؤاله، لكن لم يتفوه الأب بأكثر من كلمة واحدة "بعرفش"، كلمة كانت كفيلة بإخراج الضابط من هدوئه: "اسمع انت بتلعب مع المخابرات الإسرائيلية هاي اللعبة بتكلفك كتير".
- قد ما بدها تكلف ما بتغني عن الوطن
- انت بتعرف انك بدك تموت من الجوع
- أموت؛ ههه ليش؟
- حتبطل تفوت على (إسرائيل)..
ابنك حاول يطعن مجندة وقتلنالك اياه
على شدة قسوة ذلك الاعتراف كان رد والد الشهيد شديدا كذلك: "في شغلة بتعرفهاش، انت لما فتت على المنطقة مفروض قرأت عن تاريخ عائلتنا، احنا اصلا مرفوضين أمنيا، وعمرنا ما عبرنا الداخل المحتل" لم تنته إجابته: "اليهود اللي زيك لما بدهم شغل بتصلوا علي وانا برضاش، ولو معي تصريح كان مزعته قدامك لانه مش اغلى من ابني".
يحاول الضابط استدراجه: "طيب وين وصيته؟"
لا زالت نظرات الغضب تستعر بعيون والد الشهيد: "لأنكم قتلتوه بدم بارد، عشان هيك فش وصية".
تدارك الضابط: "حاول يطعن مجن.."، قاطعه الأب صارخًا: "أي مجندة، المكان مدجج بالكاميرات وريني تسجيل"، يرد الضابط مترددا: "حورجيك"، لا زال الحوار محتدما: "يلا اثبتلي، إذا كنت صادق ..وريني".
تطفو بقايا الحوار على حديث والد عطا الله لنا، معلقًا: "قال لي بعدها: ولا مرة قتلنا ابن حد وهددناه بهدم البيت إلا وكان ببكي، إلا انت، فأجبته أن البيت ليس أغلى من ابني، ثم هددني بالاعتقال بالزنازين، فأجبته أني سأكون أكثر قوة داخلها".
من على عتبات البيت وبينما توشك الشمس بالرحيل الساعة السادسة مساءً، انسحبت الدورية من المكان لكن الضابط الذي يدعى "مرجان" ترك كلمات هدد فيها والد الشهيد بغطرسة المحتل: "حيكون النا لقاء قريب، حاجي أخد ابنك نصر الله واهدلك الدار".
لم يكتف الاحتلال بارتكاب الجريمة، بل يحتجز جثمان الشهيد عطا الله، ويمنع عائلته من القاء نظرات الوداع الأخيرة، وتبريد نيران الفراق؛ "رفعنا دعوى من خلال مؤسسة القدس للدفاع عن جثامين الشهداء، لاسترداد جثمانه، وفتح تحقيق في ظروف استشهاده" تسلك العائلة مسارا قانونيا رغم قناعة والده عدم جدواه إن كان القاتل "هو الخصم والحكم".
شهادة "ترفع الراس"
صوت صليل الحزن لا يزال يدق نواقيس الوجع في قلب والده يستحضر مواقفًا جمعتهما معا: "لم أرَ مثل عطا الله، تخيل لم أضربه يوما ما، استذكر فترة لا تنسى قضيناها معا في شهر مارس/ أذار 2020م، في موجة أزمة جائحة كورونا الأولى، حجرنا معا لمدة شهرين لإنجاز أعمال كنا قد استلمناها قبل الجائحة".
دغدغ الموقف مشاعره وبدأ يذيب صلابته "كنا نستيقظ باكرا نتناول الإفطار، ونعمل ثم نعد الغداء، كانت فترة لا تنسى".
في الليلة الأولى بدون عطا الله، حتم على الأب كتم مشاعره: "عائلتنا تضرب بها المثل في قوة القلب، وكأب حزين لفراق نجله، كتمت حزني لألملم جراحات قلوب باقي أولادي (4 أولاد وبنتان) وكانوا منهارين مع والدته، وأخذت اصبرها بأن هناك من ليس لهم أولاد، ونماذج ممن فارقوا أولادهم".
لكن الأب المكلوم لم يجد ما يضمد جراح قلبه، ذهب لغرفة ابنه ونام على سريره، وأمسك آخر قميص ارتداه ابنه يشتم رائحته التي لا زالت عالقة به، ينظر لمكتبته وكتبه التي كان يغفو نجله البكر واعدا العائلة بفرحة وشهادة تفوقه، تساقطت الدموع خلسة بسهولة من عيني والده على قميص نجله الذي خطف منه بلمح البصر، يرسل أشواقه لروح عطا الله بكل أشكال الوجع الجثام على قلبه: "كنت بانيا آمالا كبيرة عليه فوق ما تتصور، بأن يريحني ويستلم ورشة الرخام من بعدي".
صحح المدرس مادة التكنولوجيا واستبدل اسم الطالب بالشهيد عطا الله ريان، في المقعد الثاني في الفصل لم يتبق من عطا الله سوى صورة بجانب علم فلسطين مرفقة بشهادة سبق كل طلبة الثانوية العام في الحصول عليها وكانت شهادة ترفع "الراس".
على جدران غرفته ميدالية ذهبية لماراثون ركض نظمته بلدية "سلفيت" كان من الفائزين فيها، وصور له على مرتفعان جبل "النار" فيها تظهر ابتسامة منه تضاهي جمال الشمس، عزف للحياة على الآلة الموسيقية التي طوقها بذراعيها في إحدى الصور، وصعد على ظهر خير في اخرى، فتى يحب الحياة لم يكتمل حلمه.