عالم فلسطيني، وبروفيسور في فيزياء الفضاء، دكتور جامعي، أكاديمي لامع، نُخبةُ النّخبة في حقل نادر النّدرة. عمل سابقاً في وكالة الفضاء "ناسا"، وحصد جوائز علمية عريقة للغاية. له منشورات لا تستطيع فكّ طلاسمها، ولا معرفة ماذا تعني بالضبط، سوى أن تُظْهِرَ أمامها كامل الاحترام والتقدير، مُدرِكاً -في الوقت ذاته- أنها تعني أشياء تفوق درجة فهمك العادية، وتختزن بعضاً من أسرار الكون، كالأيونات والشحنات والموجات الكهرومغناطيسية.. نعم، فَلَكٌ شبيه من الدلالات المعرفية المذهلة! ألقابٌ كثيرة قد تسبق اسمه، لكنّ أكرَمَها وأنبَلَها على الإطلاق، لقب "أسير". هو الأسير: عماد البرغوثي.
أول ما يتبادَرُ لِذهْنِك عندما تسمعُ كلمة فضاء، أَذْرُع مفتوحة تحلّق في عنان السماء، مُستشعرة ومُستمتعة بالحرية. قد يُخَيَّلُ للجيل الشاب صورة لـِ"كابتن كيرك" من سلسلة الخيال العلمي "ستار تريك"، وهو يقود مركبة الفضاء "إنتربرايس"، وقد يخطر في باله أيضاً سلسلة "ستار وورز"، لكنّ التصاق الفضاء بفلسطيني لأمر يدعو للتعجب حقّا! ربّما لأنك لم تسمع باقتران كهذا من قبل. تتعدد الاحتمالات، قد يعود ذلك لتقصير الإعلام في طرح البرغوثي ك "حالة خاصة" من التميّز على سبيل المثال، أو لبِلاهة الحال وتَعَوّدِنا على استباحة الأخضر واليابس منا، أو ربما لسبق الإصرار والترصد في التهميش.. هكذا.. "لغاية في نفس يعقوب"، أو ببساطة مُطلقة: رغبة الاحتلال في طمس الفلسطيني، وإقصائِهِ من الأرض والفضاء معاً!
تشبثاً بالبساطة، لِنُعِد التّعريف مرة أخرى: "رجلٌ دمث، متواضع، ذو حسّ فكاهي عالي.. يعني "خفيف دم عالآخر"، زوج رقيق، أب حنون لخمسة أبناء وبنات، جَدّ لـِ (عِماد جونيور)، مُحبّ للعِلْم، مُخلِصٌ في الانتماء لأرضه وزيتوناته التي ورثها أبّاً عن جِدّ في قريته بيت ريما. شو بدي أقلّك... هو عِماد الدار" هكذا تُعَرّفُهُ زوجته سهير.
الدكتور عماد ملاحَق، من إداري لآخر. أنزلته فاشية الاحتلال من الفضاء الى معتقل عوفر الاحتلالي. إنزال بجيبٍ إسرائيلي رَصَدَهُ على حاجز عناتا، وهو عائدٌ من جامعة القدس في أبو ديس، حيث يُحاضِر. وما يزال الاحتلال يترصد له، رادِعاً أي صدىً يؤازِرْهُ في الأسْر أو يَتَضَامَن معه من المُجتمع العِلمي والدّولي بفعل جاذبيته العلمية.
كيف لِعالم فلسطينيّ -حاصل على ماجستير في الفيزياء النووية، ودكتوراة في فيزياء الكَون، رصيده العلمي يتجاوز 57 بحثاً، مُعظمها مَنشور في أرقى المجلات العِلْمية والمُحْكمة، كان قد أوجَدَ "نموذج البرغوثي" في حقل العِلم الواسع، وتفوّق في نتائجه على نتائج النموذجين: الأمريكي (MIT) والألماني(Max Planck) - أنْ يُخْتَطَف للمرة الثالثة على التوالي من أُسْرَته وبيته وأبحاثه وجامعته وطلّابه، بدون ضجة توازي ارتطام سطح الأرض بنيزك ما؟!
مقابل ما ذكر، لا يستوعِبُ مُجتمعُ العلماء الدّولي حالة "اللاتُهمة" التي يُوَاجِهُها عالم فضاء فلسطيني، في ظل عَدَم وجود دعم له أو إسناد رسمي على الأقل من مؤسسات دولته، والتي لا تتوانى عن توزيع النياشين والدروع والجوازات الفخرية ع "طرف وجنب" للفنانين والفنانات، وتُسارِعُ بالاحتفال وإدراج أكبر رغيف مسخّن أو صِدر كنافة أو صحن تبولة في موسوعة جينيس!
كَتَبَ البرغوثي رسالةً للمتضامين معه، مُستشهِداً بكلمات ديزموند توتو، حاثـــّــاً المُجتمعَ العِلمي والدّولي على الاصطفاف مع العقول الفلسطينية المُستهدفة، وفَضْح ممارساتِ الاحتلال بحقّها، قائلاً: "إذا اخترتَ أن تبقى محايداً في وقت الظّلم، فأنتَ تقفُ إلى جانب الظّالم". على الرغم من رسالته النارية، والتي لاقت آذاناً صاغية، وعقولاً متنوّرة خارج فلسطين فقط؛ يواصلُ الاحتلال استهداف الصّفوة، وخير دليل ما نشهده من إغلاقات واقتحامات للجامعات الفلسطينية، واعتقال الطلبة الجامعيين، ومنع الأكاديميين والتقدميين من السفر. فبرغم العرائض الدّولية التي انطلقت نُصرَةً للبرغوثي، مثل منظمة علماء من أجل فلسطين، والتي وَقّعَ عليها مجموعة كبيرة من العلماء، مثل العالِم البروفيسور نعوم تشومسكي، والبروفيسور جورج سميث، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء؛ ما زال الاحتلال يحتجزه بدون تهمة.
يمكث د. البرغوثي حتى اللحظة في مُعتَقَلِ عوفر، في ثالث اعتقال له، صابراً على قرارات إدارية جائرة بحقـّه، كان آخرها تجديد الإداري أربعة شهور أخرى، لأجل غير مسمى. يُواصِل د. عماد حبّه للعلم، ويحاضر للأسرى في مواضيع متنوعة، كاسراً شوكة المُحتل، في عَزْلِهِ عن طلب المعرفة وتقديمها.
"لن أنسى بكاءَه كطفل أمامنا.." هكذا تقول شهادة أسير محرر عاش معه في السجن. ويُكمل: "عندما أعرَبَ الدّكتور عن رغبته في المُشاركة بإضراب عن الطعام مع الأسرى في عوفر، ومَنَعَتْهُ الحركةُ الأسيرة من المُشاركة بِحُكْم سِنّهِ الكبيرة، بَكى حينها كطفل أمامنا، لشدة تأثره بـِ (لاءات) قيادةِ الأسرى أمام نَعَمِهِ لخوض إضراب مفتوح عن الطعام، نُصرة لمطالِبِ الحركة الأسيرة. "لن أنسى ذلك اليوم.. لقد بكى الدكتور حينها بمنتهى التواضع والوداعة والصّدق."