أيها الغائبون والمغَيّبون في دياجير الأسر تَحلّوا بالموت، فهو فرصتكم لكي تخرجوا منه أحياء، وأنتم تودّعون الشهيد تلو الشهيد والحلم تلو الحلم.
أيها الغافلون عن الأمل تنبّهوا فأنتم على وشك أن تفقدوه إلى غير رجعة، فصوت الحقيقة لا يغطيه أزيز الذباب، ونور الشمس لا تحجبه سحابات الصيف.
أيّها المعلّقون على أبواب العدم، ليس الوجود لعبة للتخفّي، فالجبال الراسخة تهزأ بالنسمات العابرة، جددوا أنفسكم بفقدها قبل أن يضطركم هذا الوجود القاهر إلى رميها في صحراء الهباء، أيّها القادمون رَغماً عنكم أو بإرادتكم إلى هنا، لقد أصبحتم في عِداد الراحلين، هدّئوا من روعِكم قليلاً فإن الأخطر لم يأتِ بعد، أيّها الباكون على الماضي كفكفوا دموعكم طويلاً، أما الحاضرُ والمستقبلُ لن يكن ولم يكون إلا بِهَدْيِكم.
"أنا رايح أموت"!!!
كانت هذه آخر كلمات الأسير الشهيد الخامس والعشرون بعد المئتين بسام السايح، حينما انتزعوه من بين رفاقه بعكس أمله الأخير أن يقضي لحظاته الأخيرة من الحياة بين أخوة الدرب والمصير في غياهب السجون، وقد استكثر السجان أن يموت في حضن أمه وأحبته، وقد استفحل به المرض جراء الإهمال الطبي، إلى شاهد قبر سجن الرملة ومستشفاه جُزافاً وتعدّياً على الاستشفاء أسميهِ هكذا.
ومات!!؟ بهذه البساطة وكأنه قدره الشرير وكفى!! فجيعة بكامل شروطها اكتملت، ولكن من أعطى اليهودي، الصهيوني، الإسرائيلي، شعب الله المختار، أحذية القرن الواحد والعشرون، سمّهم ما شئت، سلطة لانتزاع أرواح البشر كأنها شعرة من جلد بعير؟!
من يمتلك من؟ من في زمن الخطيئة، وأيّ حقدٍ ذلك الذي لا تُشبع غرائزه أنهاراً من الدم، كافية لأن تُغرق ضمائر المتخاذلين والسُلطويين والمنسقين والمطبّعين كلّهم؟ أما الشهداء قناديل في عتمة خيباتهم، أحزاب وحركات وفصائل فلسطينية، أبطال التشدّق بالدم في الاعلام، يتباكون ويتنافخون شرفاً ووفاء، بل ويحملونها بأيديهم في الليالي الحالكات سراجاً كما يقولون؟! ليخدعوك أنت الساهب في الصمت، فتنسى الشهيد الذي خرج ولم يعد، وتحمل في اليد الأخرى قناديل النور لتضيءَ لك ولهم درب التيه وتحتفل!! هل البكاء تميمة النجاة من الموت؟ أم تعويذة الوقوع في حضنه؟!
فما أهون أن تقضي في الأسر كما قضى من سبقوك في صراع البقاء والتعذيب، المعلّق بين الموت والحياة، مبعثرين بين المنطقتين، دوامةٌ تسحبنا لنغرق فيها وتتعاظم، ما دمنا لوحدنا نواجه مصيرنا، وكأن الوطن لنا وحدنا، حُراسه وشهداه، لا يعني أقرب الناس انتماءً وفكراً ودماً قيد خطوة عمل.
أم أنهم ملّوا موتنا المتكرر فيهم وفي الغياب، أم كثرة الهوان فيهم ومِن حولهم، فقد أُجبرنا أن نكون أبطالاً إذا كانت البطولة تعني أن نغيب في السجون عُقوداً ونستشهد في منتصف الطريق نحو الحريّة، كلٌّ على طريقته، وتُصبح صورة على جدار أو ذكرى في قصيدة وطنية شماء في أمسية شعرية ليس لك فيها إلا الاسم والخيلاء توظيفاً لا أكثر، أو ندوةً سياسة يُلقيها أحد الغيورين في هيئة شؤون الأسرى، من محامين وناشطين وسياسيين خارجين من الخدمة والزاحفون إلى الشهرة، لإظهار مهاراتهم في تِعداد مناقب الأبطال ومآثرهم العظيمة في الصدق والانتماء، فكل الكلام خائن ما دُمنا بالأسر يا سادة يا مَهرة.
لعلّه قدرنا الأحمق ساقه علينا الأب أو الأم أو الصديق أو الواقع المشوه، ولكنه بالضرورة ليس اختيار الغالبية منّا، فأنا لم أختر أن أكون بطلاً هُماماً ينتظر نَوطَ القدس والشهادة من السيد الرئيس، ليختم به مشواره النضالي العتيد.
والدي المرحوم من دفعني بكلتا قدميه بعد أن أمسك عارضة البيت بيديه إلى هذا الخيار، فقد كان اختياري منذ الصغر أن أدرس الهندسة الإلكترونية بجامعات أوديسا بأوكرانيا، شأني شأن المتفوقين من زملائي في الصف، عندما رفض ذلك وبشدة، لربما لطبيعتي المتمردة منذ الصغر، أو لا أعرف ما الذي دفعه لذلك لغاية الآن، ومن بعده العدو الإسرائيلي بعد أن جمعت مبلغ الرحلة الأولى والاعتماد على النفس هناك، وقد رأى فِيّ لقمة سائغة للتعاون والعَمالة، مقابل إعطائي تأشيرة المرور وحُسن السلوك والعلم الحصيف بظروفي، وقد علم من زبانيته ذلك، وأن الجامعة تُرحّب بي، إغداق البيضاوات من النساء والمال الوفير ورتبة رفيعة في الشاباك، وأن يضعني في خيار الخيانة لعروبتي ووطني وأهلي وناسي وأحبتي، أو أشاهد حلمي يموت برفضي أمامي وقد ربيته صغيراً وكبر بحضني، مما جعلني أوجعه بكل ما أوتيت من حقد ودموع، لأحمل المؤبدات المستحيلة وأُنسى هنا، بل وأتمنطق بالمواجهة والبطولة...
شد الضيق حزامه على الصدر، وكبرت عضلة القلب في الجوانح، وبكينا عليه وعلينا بُكاء النوارس، الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر، لمدة دقيقتين على الأبواب وطرقها أحياناً، وقتما جاءنا أن أخانا الأسير بسّام السايح وَفى بكلماته، واستشهد...، ومِن قبله لهذا العام 2020 الشهداء نور البرغوثي وداوود الخطيب، سامي أبو دياك، ومن بعده الشهداء سعد الغرابلة وكمال أبو وعر، وكلّهم جراء الإهمال الطبي والقهر والتعذيب بكل صنوفه الذي مورس عليهم ولا زال يمارس على الأسرى.
في خندق الموت دون مُعيل، هل التكيّف مع الوضع القائم مَهانة أم عبقرية؟ حيث صار الأسير يتقبّل خبر استشهاد أحد رفاقه في الأسر بجُرحٍ يُخط على جدار الروح ويقسمه بآخر كلما سقط شهيداً آخر؟ أو ما يتعرض له من تعذيب بكل المستويات يحتمله معه؟ لا أعلم، فهل هو بذلك يركن بسبب توالي النكبات إلى الذل، أم يحاول الحياة؟! فأعتى أعداء الأسير كرامته الجَمعيّة تقف مثل الرمح في وجهه، إما أن يحملها ويقاتل من أجلها، أو ينحني أمامها لتدوسه أقدام العابرين...
فاصل ونعود
يا شهيدنا الأسير الذي لم ولن تعود، لتنطفئ ملامحنا من جديد مع شهيدٍ آخر ينتظر دوره وينتظرنا، لتتّقد أعيننا ببكاء الدم، وكأن الحزن يمر على الوجوه كالريّح عاصفاً يحمل معه خضرتها الطيبة، وتُخلّفها كصحراء، فكم أسيراً سيسقط على مذبح الإهمال الطبي والذل والنسيان، حتى يُسمع صوتنا وتعني حياتنا بالأحرار شيء غير البطولة والأرقام، فقد طفح القهر، ونزف من شقوق أرواحنا أم نحجز دورنا على سلّم الشهادة ليتغنى بنا الزيتون والبرتقال وتراب الوطن؟!
آه لو كان يا بسّام ويا سامي ويا كمال أبو وعر ويا نحن، للموت عينان لفقئتها وهزمته بأبسط آمال الحياة، فلا تستعجلوا الرحيل، لو كان له قلباً لاقتلعته وانتصرت عليه بأبسط الأحلام، فالحرية تُصنع في غابة القيود، لو كان له لسان ليقول إن الكلمات سبقته إلى الوجود، وأن ترحل به غير آسفة بدون فاصل إلى أن نعود.