أم الفحم - قدس الإخبارية: كانت السماء قد توشحت ثوبها الأسود الحالك، نقرات عقارب الساعة تخطت العاشرة والست دقائق مساءً، سهام اغبارية من مدينة أم الفحم وهي أم لستة أولاد تستعد لمعانقة المسجد الأقصى في زيارتها في اليوم التالي، يفسد صوت ابنها أحمد (15 عامًا) خلوتها مع نفسها: "يما بدي اتغطى"، فأحضرت ملاءة له وغط في نومه بجوار شقيقيه الطفلين، تبادلت العينان المسدولتان بستار النعاس نظرات غريبة لم تجد تفسيرًا لها وكأنها نظرات وداع، أول مرة تغط الأم في نوم عميق، قبل أن تستيقظ مرة واحدة فزعة على وقع صوت فتح باب البيت لتنهض مرة واحدة على وقع صوت الرصاص، لتجد شخصًا يحمل بندقية ويرتدي جعبة عسكرية مليئة بالذخيرة، يطلق النار على ابنها أحمد، أغمضت عينيها من الرعب على صوت توالي إطلاق النار، قبل أن يفرش السكون المكان على رائحة الدم.
ارتدت غطاء الرأس، تحاول إيقاظ ابنها أحمد، تتسع كامل أحداقها، ترى الدماء تنزف من فمه، بقربه يرتجف طفلاها الصغيران والخوف يختبئ خلف قفصهما الصدري، تساقطت دموعها كغيمة مثقلة بالهموم تناسب قطراتها بخفة أسفل قدميها، لا تصدق طفلتها ما حدث "ليش بتعطي يا ماما هاد فرد صوت"، تركت طفلتها غير مدركة لحقيقة ما جرى، ليتها مثلها لا تدرك حجم الفاجعة.
صدمة ثلاثية!
توجهت للغرفة الثانية لتجد ابنها محمود (21 عامًا) ملقى على ظهره على سرير شقيقه مضرجًا بدماء استبدلت لون الغرفة إلى الأحمر، تقتحم صدمتها أسئلة: "أين زوجي (توفيق هيكل 46 عامًا) .. لماذا لا أراه!؟"، لتجده يجلس في غرفة استقبال الضيوف لا يحرك ساكنًا، نظرت إلى بقعة دم كبيرة حول صدره فأدركت أن المجرم نال منه أولا، وكان ينظر مشدوهًا إليه أثناء مباغتته بالرصاص، كان كل شيء يتحرك بها إلا أحبالها الصوتية التي لم تستطع الصراخ وكأنها في حلم.
لحظات وتجمع الجيران، في 18 أكتوبر/ تشرين أول 2011م، لحظات جاثمة على ذاكرة سهام اغبارية وهي تروي تفاصيله لـ"شبكة قدس الإخبارية"، صمتت قليلا تستحضر تفاصيل ما بعد الحدث: "كان الإسعاف يتصل بشرطة الاحتلال الإسرائيلي للقدوم لكنهم كانوا يماطلون متذرعين بوجود صوت إطلاق نار حتى دقت الساعة الواحدة فجرا، حينما ذهبت لمركز الشرطة بأم الفحم، استذكر كلمات ابني محمود وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: (أنا شو سويت شو عملت؟)".
جريمة غامضة، ليس معروفا سببها ولماذا هوجمت العائلة، ومن هم المهاجمون، عشر سنوات مضت تحاول العائلة الوصول للحقيقة وحدها، وفي كل مرة توصد الأبواب أمامهم.
كانت تجيب على أسئلة المحقق، خائرة القوى لم ترحم تلك الأسئلة قلبها الهش، حتى دخل محقق آخر وكتب ورقة، استطاعت قراءة ما كتب فيها "ابنها الآخر مات"، ثلاث صدمات بوقت واحد، شابهت صاعقة ضربت قلبها بلا هوادة، لكنها استرجعت مصابها لله، وحدثت مظاهرات وأصبحت قضية رأي في الداخل المحتل، وتناوبت مراكز التحقيق في شرطة الاحتلال في حيفا وعكا على استدعائها.
في شهر فبراير/ شباط 2012، وعد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بتقديم المساعدة وفك رموز الجريمة، استغربت في قرارة نفسي حينها كيف سيتعاطف معي وأنا عربية مسلمة، ومرت أشهر دون أي تقدم"، تقول.
بعد الشهر الرابع، بادرت هي بالسؤال عن القضية، وفي كل مرة يأتيها الجواب جاهزًا من شرطة الاحتلال بأنها "قيد البحث"، حتى قررت الذهاب لمركز تحقيق "حيفا" هناك صدمها المحقق كما صدمها كثيرون غيره: "لا يوجد لدينا دليل"، ترجع خائبة تفوض أمرها لله، وبين ثنايا صوتها تتزاحم كل عبارات الحزن: "من يومها حتى الآن، المجرم لم يعتقل ولا يذكرون القضية، لم أترك ولا فعالية إلا وشاركت بها دون جدوى".
لم تستطع العودة إلى البيت الذي حدثت فيه الجريمة، واستغرقت سنوات في تأهيل أطفالها الذين شاهدوا الجريمة نفسيا، نفضت جراحها وتخصصت في الشريعة الإسلامية تساهم في تعليم أبناء مدينتها (أم الفحم) القرآن الكريم، على أمل "أن يخرج جيل يخاف الله ويتقيه" كلمات مقهورة لا يزال صداها يدوي داخل قلبها.
وارتفع عدد ضحايا جرائم القتل العام الماضي إلى 113 قتيلا، بينهم 16 امرأة، وشهد عام 2019م جرائم قتل طالت 91 فلسطينيا بينهم 11 امرأة، و72 حالة عام 2018، ومثلها عام 2017م، و64 حالة عام 2016م، و58 حالة قتل خلال 2015م.
ويعيش المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 حالة مقلقة تستنزف قواه وتفكيره، متمثلة بتفشي الجريمة، الفردية والمنظمة، والتي وقع ضحيتها، منذ 2011 الى الآن، ما يقارب 650 ضحية، دون تعداد الجرحى الذين سقطوا من جراء هذا العنف.
ستة شهور والمجرم طليقًا!
ستة شهور مرت على قتل ابنها الوحيد "خليل خليل"، يوميا تبحث في مراكز شرطة الاحتلال الإسرائيلي بمدينة حيفا، عما يبرد جراح قلبها بأن يوضع المجرم الذي قتل نجلها على مرأى من الناس وكأنه أمن العقاب بالسجن، تلك الرصاصة التي اخترقت قلبها الهش قبل أن تصل إلى قلب ابنها.
ستة شهور يركن الملف كغيره من ملفات القتل في الداخل المحتل، على أجندة الإهمال لدى شرطة الاحتلال، غاب فيه الأمن عن المدن العربية وبات "السلاح" الذي ترعاه المنظمات الإجرامية بدعم غير مباشر من الاحتلال هو الحكم بين الناس، بدلا من قوة القانون المغيبة عن المشهد.
تنهدت أم خليل الوجع الذي بداخلها تخط لـ"شبكة قدس" فصول القصة: "كان خليل سعيدا بشقيقته التي أبصر مولودها الحياة، وجاءت عندي لرعايتها، يومها عاتب أخته كونه الذكر الوحيد الذي أنجبته على ست بنات: "كلكم ما سمتوش على اسمي"، ثم نزل عند بيت جده، كنت أنظر إليه من النافذة ووجدته جالسًا، بعد لحظات ألقيت نظرة ربما الخوف اجتاح قلبي فيها فلم أجده، امسكت هاتفي واتصلت به لكنه عاتبني: "تضلكيش تتصلي علي كمان شوي بنزل على الشغل ما صارت الساعة 11 ونصف"، فهو عامل ليلي".
بعد لحظات جاءها خبر من أحدهم يفيد أن ابنها سقط على دراجة نارية لكن لم يكن الخبر هذا صحيحا، تزيح الستار عن الكواليس نافضة غبار الألم المتيبس حول قلبها المكلوم: "كان هناك خلاف سابق مع عمه وزوجته، وأثناء مروره بالطريق تهجم عليه أولاد عمه، وأطلق أحدهم رصاصة واحدة استقرت بجوار قلبه وقتلته على الفور".
تذرف ألمها وترثي حسرتها: "توجهت لشرطة الاحتلال الإسرائيلي حتى تعتقل القاتل، فتفاجأت أن الشرطة تقول إنها لا تملك الدليل، ونظمت مظاهرة من حيفا إلى القدس، وكل يوم أذهب لمركز الشرطة".
"لليوم ما صار إشي بعد المجرمين برا وابني بالتربة"
الحزن يملأ فمها "ابني وحداني على ست بنات، كنت شايفة عمري وحياتي معه، راح بشربة مية، لكن راح اضلني للآخر تالمجرم ينمسك وينحط بالسجن" وكأنها تواسي نفسها فهي تدرك أن ذلك لن يحصل، مقرة "لا يوجد لدينا أمن، شرطة الاحتلال وحكومة الاحتلال الإسرائيلي تتواطئان مع المجرمين، أنظر كم شخص يقتل، أين المجرمين؟ كلهم في الخارج ونحن نعيش على أعصابنا".
وتشهد البلدات العربية جرائم منظمة غير مسيطر عليها من قبل الشرطة، حيث تتعمد شرطة الاحتلال عدم المساس برؤوس الإجرام، رغم قدرتها على التعقب والمراقبة، والضرب بيد من حديد، كما لو كانت تلك الجريمة متعلقة بالمجتمع "الإسرائيلي"، ولكن الاحتلال يتعامل بعنصرية حتى في محاربة الجريمة.
دوافع وأسباب
الناشط والصحفي ضياء حاج يحيى، يقسم الجرائم إلى عدة تصنيفات؛ جرائم من دوافع انتقام، وهي كثيرة، وهناك جرائم بدوافع مادية، وأخرى ضد المرأة لأسباب متعددة، وجرائم شجارات، وأخرى بين عصابات الإجرام، وهناك جرائم غامضة، وهذه بدأت تكثر في السنين الأخيرة.
يقول حاج يحيى لـ "شبكة قدس الإخبارية": "على مدار 20 عاما مضت، تمكنت شرطة الاحتلال من فك لغز نحو 15% من عدد الملفات، ما يعني 180 قضية فقط من بين كل 1000 جريمة".
يضيف: "هناك جرائم ارتكبت سواء من قبل عصابات إجرامية أو انتقامات أو دوافع مادية، والقاتل معروف لأهالي البلدة ذاتها، ولكن شرطة الاحتلال لا تعتقله بداعي عدم توفر أدلة كافية، وفي حالات أخرى قدمت عائلات الضحايا كل الأدلة الكافية ولم تقم الشرطة بضبط المجرمين".
ويتابع حاج يحيى: "هناك جرائم لا تزال غامضة، دون خلفية واضحة أو متهم أو حتى مشتبه به"، مشيرا إلى أنه في الأسابيع الأخيرة وبعد وقوع جريمة أمام أعين شرطة الاحتلال الإسرائيلية، بدأت الأصوات تتعالى بالداخل المحتل جهاز شرطة الاحتلال وتواطؤه".
وحول تأثير الجرائم على الواقع بالداخل المحتل، يرى أن تأثير الجريمة على فلسطينيي الداخل في الداخل كبير جدا، على الواقع السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، فالجريمة جعلت الناس تفكر أولا كيف توفر لنفسها الأمن والأمان، بعيدا عن الانخراط السياسي، ومتابعة القضايا السياسية المصيرية.
وأدى تفشي الجريمة بين الفلسطينيين في الداخل المحتل، إلى إشغالهم بنزاعات دموية، وبالعنف والجريمة، لإبعاده عن قضاياه الجوهرية والمصيرية (السياسية التحررية) بحسب حاج يحيى.
وعن المجرمين يقول: "هؤلاء لديهم قوة، سلاح، ومال، يجنون المال من العمل الجنائي في تجارة بالسلاح، بالمخدرات، الخاوة، مناقصات بالتهديد، وأيضا بعض منهم لديه مصالح تجارية".
ويرى الحاج يحيى أن عدم محاربة الجريمة في الداخل المحتل والتنصل من المسؤولية هو قرار سياسي إسرائيلي، مدللا على ذلك بغياب القانون وتواطؤ شرطة الاحتلال الإسرائيلية، الأمر الذي أعطى المجرمين حرية لارتكاب ما يريدونه وزاد من قوتهم ونفوذهم، لافتا إلى أنه في 2005م أعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلية ملاحقة المنظمات الإجرامية اليهودية، وكان نفوذها يتخطى حدود المساحة التي تحتلها (إسرائيل) من فلسطين التاريخية، وكانت أقوى بكثير مما هي عليه المنظمات العربية الآن، ولكن في غضون خمسة أعوام أجهضت عمل هذه المنظمات وأفضى رؤسائها بين معتقل وقتيل، والآن المجتمع اليهودي خال من هذه النزاعات تقريبا.
وفي العام الماضي نشرت حكومة الاحتلال تقريرا أشارت فيه إلى أن الضالعين في الجريمة هم بين 2% إلى 2.5% من المجتمع ما يشير إلى أنهم قلة قليلة.
مشهد متصاعد
مدير مركز أمان – المركز العربي للدراسات رضا جابر يقول، "إن تراكمات حدثت من السنوات الماضية وتقاعس دور شرطة الاحتلال في التعامل مع الجريمة في البلدات العربية وتصاعد الفقر والفجوات الاقتصادية بين الناس في موضوع التعليم والاقتصاد وتراكمه والمشاكل الاجتماعية هي التي سببت تصاعد المشهد".
يضيف جابر لـ"شبكة قدس الإخبارية": "شرطة الاحتلال تتعامل مع القضية على أنها تخص المجتمع العربي وحده وتتعامل بالابتعاد عن حلها بشكل جدي".
وتابع: هذه الجرائم تقوض المجتمع من الداخل وتحد من تطور المجتمع العربي، تبدأ معه منظومة التماسك الوطني بالتآكل، مبينا أن تقاعس الاحتلال ليس إهمالا، بل سياسة ممنهجة بوضع المجتمع الفلسطيني العربي على الهامش، بدون إمكانيات تطور داخلي أو الحفاظ على السلم الأهلي، وأن "الموضوع سياسي يتعلق بعمق توجه الدولة إلينا، وانفجار العنف نتيجة سياسات انتهجت أمامنا".