يستند كثير من النقاش، في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة، إلى الاحتكام للأفكار الشعبوية، بعيدًا عن النقاش الواقعي والمنطقي المفضي إلى الوصول إلى نتائج، فمن الصعب الحصول على نقاش هادئ يستند إلى دراسة الفعل السياسي والظروف الواقعية، فالعوامل في الاجتماع الإنساني وتداخلها وتعقيداتها، أكثر مما هي عليه في الظواهر الطبيعية التي تتحكم بها القوانين المجردة والنتائج الحاسمة.
كثير ممن يتحدثون في الشأن العام يستخدمون منطق القوانين الحاسمة، في الحكم على الأمور، وينتج عن ذلك خطاب مزايدات وتجييش وصولاً للشيطنة، فالفعل السياسي، بحسبهم، محكوم بمنطق أبيض أو أسود، والخيارات الممكنة معنا أو ضدنا (وهو بالمناسبة منطق الرئيس الأمريكي سيء الصيت سابقا جورج بوش).
في لغة هؤلاء لا مجال لاجتراح الفرق بين الموقف والخطاب مع أن ذلك من بديهيات البشر الذين لا يظهرون كل ما يبطنون، ويبشون في وجوه أقوام وهم يلعنونهم، والمفارقة أن كثيرًا من أصحاب هذا الخطاب تختلف لغتهم في المجالس الخاصة عن الحديث في الرأي العام، حيث المواقف التي لا توافق هوى جمهورهم تخسرهم حضورهم ومكانتهم. ومن العجيب طرح فكرة أن البحث عن المشترك مع أي طرف يعني الموافقة على سلوكه فيما سواه .
وفي هذا السياق يزداد النقاش صخبًا في السنوات القليلة حول العلاقات التي تربط المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة المقاومة الاسلامية حماس مع القوى الإقليمية والعالمية، وقد أخذ الجدل بعدًا جديدًا، خاصة في ظل ترميم العلاقات المعلن، والذي يظهر من التصريحات الدافئة بين الحركة وبين النظام في إيران، رغم أن علاقات الحركة دائمًا تحت المجهر وكذلك تصريحاتها حول أي موضوع.
وينقسم المناقشون في هذا الموضوع إلى عدة أقسام: فمنهم المؤيد الذي يرى تدهور العلاقات سابقًا كان خطأ، وأن ما تتحصل عليه الحركة من هذا الدعم أفضل وأكثر جدوى من ملاحقة المعترضين والمزاودين.
ومنهم أيضًا، المبرر الذي يرى العلاقات اضطرارية بسبب التآمر العربي على القضية الفلسطينية، ومنهم المتفهم رغم الكراهة، إذ يقبل تلقي الدعم ولكن يرفض مظاهر الثناء التي يراها مبالغًا فيها.
ويوجد كذلك المعارض وصولاً إلى المخوّن الذي يراها قد باعت قضايا الشعوب العربية في التحرر من الاستبداد وانغمست في المشروع الإيراني في المنطقة.
من البداهة نقاش حاجة القضية الفلسطينية للمواجهة، وكذلك حقها في مواجهة الحركة الصهيونية التي تحتل الأرض وتفتك بالبشر والحجر، وتزداد هذه الحاجة مع ازدياد التطرف في معسكر الاحتلال الذي بات يتجه من اليمين إلى يمين اليمين.
وتكتسب المقاومة أهمية إضافية، في ظل حالة التردي العربية التي توجت بالتطبيع والمغالاة في التهافت على الاحتلال، بل وتبنّي روايته والتصفيق لجيشه، إذ يزداد الخناق وطأة على الفلسطينيين حتى على أولئك الذي قرروا السير في فلك الأنظمة العربي ومجاملتهم في سياساتهم.
في هذا الوقت تظهر المقاومة الفلسطينية المحاصرة، والموجودة حصرًا في قطاع غزة، كآخر قلاع المواجهة، وورقة الضغط الوحيدة التي تمتلكها القضية، ولا يُعرف مآل القضايا الرئيسة للشعب الفلسطيني في حال سيناريو غيابها، فعند كل اقتحام ومواجهة ومجزرة تتعالى الأصوات المطالبة لها بالرد على ذلك، ولا يغيب عن صانع القرار في المؤسسة الصهيونية ردة فعل المقاومة حيال أي تعسف جديد ضد الحق الفلسطيني، وقد ساهمت تهديدات الفصائل الفلسطينية في تراجع الاحتلال في ملفات تتعلق بالقدس والأسرى وحتى الوضع الإنساني في القطاع.
ولا يخفى على أي متابع ما تتعرض له المقاومة من تجفيف المنابع في المحيط العربي، فحتى الانتماء لها بات من أسباب الملاحقة والمحاكمة، ووصل الأمر حدّ اعتقال ممثليها وإغلاق الجميعات الداعمة للصمود الإنساني للفلسطيني في الدول العربية.
يضاف إلى ذلك ما يعيشه الفلسطينيون في قطاع غزة، من حال قاسٍ، حيث الحصار المتواصل منذ أكثر من 15 عامًا، مع العجز المستمر في إنهائه، وذلك الحمل الذي يثقل كاهل المقاوم الذي بات مسؤولاً عن المستوى المعيشي من ناحية، ومن ناحية ثانية مطالب بالاستمرار في الإعداد والصمود، بل والتطوير في ظل حرب الأدمغة والتطور الهائل لدى دولة الاحتلال من جميع النواحي.
في ظل هذا الوضع يأتي من يناقش المقاومة في خياراتها، وهي إكراهات على ما يبدو، وفي مقدمة ذلك الدعم المعلن الذي تتلقاه من الجمهورية الإسلامية في إيران ومن حلفائها في المنطقة، وهي آخر الدول التي ما زالت مستعدة وبشكل رسمي لتقديم الدعم، وذلك باعتراف قيادة الفصائل التي تتلقى ذلك الدعم.
إلزام حماس بالتحرك وفق نقاط الاختلاف مع إيران، ترف لا يراعي ظروف الحركة، فالمعروف أن طهران لها مشروعها في المنطقة، وهي متورطة في الشؤون العربية الداخلية، وأقدمت فعلاً على دعم دكتاتوريات متحالفة معها ضدّ شعوبها، وقد توترت علاقات حماس، كبرى حركات المقاومة في فلسطين، بإيران، وكادت أن تنتهي نتيجة ذلك، ولم تخضع الحركة للمطالبات بالوقوف مع الحلف في مواجهة حراك الشعب السوري الذي انغمست فيه إيران، وفي المقابل، فالشكر الذي تقدّمه حماس لإيران متعلق بالجانب المتفق عليه منطقيًا، دون أن تتورط الحركة في الاستجابة لاشتراطات في ملفات ليست من عمل الحركة، ولا هي موضع اتفاق مع إيران.
ويبقى على المقاومة مراعاة العمق الشعبي والموازنة الدقيقة بين المصالح والمبادئ، والمراجعة الدقيقة لكل ما يصدر عنها من تصريحات حول القضايا الجدلية، حتى لا يستخدم في الهجوم عليها وشيطنتها وتبرير ما يحصل لها بفعل التآمر العربي.