شهدت السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الانتفاضة الثانية، والإجتياح الإسرائيلي تصاعد بعض الأصوات الفلسطينية الداعية للاحتذاء بالنموذج الجنوب إفريقي في مقاومة نظام الفصل العنصري، حيث استدعى هؤلاء آليات ومفردات هذه التجربة لحيز الجدل الفلسطيني في محاولة لترويجها وترسيخها كإحدى البدائل الممكنة في الصراع مع الكيان الصهيوني.
في هذا السياق الإستدعائي (استدعاء تجربة) الإستدخالي (استدخالها وعيا تمهيدا لممارستها)، بدأ الترويج لمصطلحات من نمط بانتوستونات، وابارتهايد، جنبا إلى جنب مع استمرار الحملات الدولية (وفي القلب منها النشطاء الفلسطينيون) لما يسمّونه مقاطعة "إسرائيل" وعزلها وفرض العقوبات عليها (وهنا لا أقلل من أهمية هذا النوع من الحملات، بل أؤكد أنها مجرد آلية تكتيكية في مقاومة الكيان الصهيوني لا أكثر).
وما بين الإصطلاحي/ الأكاديمي والإعلامي والعملي، يتسلل الخطاب الجديد محملا بالإنسانوية التي ما انفكت تخدع شعوب العالم الثالث الرازحة تحت الإمبريالية، وفصلها العولمي الأخير، ليطرح أفكارا (تحت يافطة حرية التعبير والحوار والنقاش كأدوات ديمقراطية) تتعلق بالتصالح والتسامح والتعددية ومناهضة العنصرية... وفي جميعها يبدو الضحية مناضلاً من أجل انتزاع وحشية مستعمره، انتصاراً للإنساني فيه، وبالتوازي مع هذا النضال (الميلودرامي)، يحاول الضحية ذاته، إقناع جلاده بأن نضاله عادل وإنساني وسلمي.
هنا نجد أن غالبية مروجي هذا الخطاب وهذا النوع من النضال كانوا ينتمون لليسار الرخو، الذين بدؤا يميلون لليبرالية، منذ نهاية الثمانينات، وتجدهم في إطار ليبراليتهم (المعتدلة، حسبما يروق لهم التعبير عنها) يسعرون الهجوم على النيوليبرالية، وكأنها الوجه القبيح الوحيد لليبراليتهم. والأهم من ذلك أن مثل هذا الخطاب الذي سيدخل الصهاينة على اختلاف أماكن استقدامهم في كيانية مشتركة، لا بدّ له من التطهر من قوميته العربية، باعتبارها أحد مفردات الماضي، وأنها شوفينية، لا تتناسب مع فكرة التعددية والانفتاح على الآخر الإنساني، ولهذا تجد أن سقف طموحهم أن تتخلى الصهيونية عن شعاراتها القومية حتى يقال أن الكيانية المنشودة متجاوزة للإنغلاق القومي، هنا أتهم الصفعة الصهيونية، بأن الأخيرة تريد نفسها دولة يهودية خالصة.
ميثاق الحرية الجنوب إفريقي الصادر عام 1955، سبق وأن أعاد تعريف من هو الإفريقي، ليصل لصيغة أن كل من يعيش في جنوب إفريقيا هم مواطنون أفارقة بغض النظر عن لونهم وأصولهم، وقد طور هذا التعريف لاحقا ثابومبيكي (نائب نلسون مانديلا سابقا، ورئيس جنوب افريقيا) ليرى أن الإفريقي هو ابن التراث الإفريقي كما هو المهاجر من أي مكان إلي إفريقيا، والذين خضعوا للعبودية، أي كل المركبات العرقية والحضارية والثقافية الموجودة في جنوب إفريقيا، ولهذا أعاد تحديد قواعد لبناء أمة جديدة، قوامها أن ليس كل تاريخ بلده اتسم بالعنصرية في الماضي، كما أن ليس كل البيض متورطين في ممارسة العنصرية... قد يفهم ذلك في سياق الأفارقة أنفسهم، وصيرورات تكوين بلدهم القومية والحضارية واللغوية... لكن ماذا عن الفلسطينيين؟
هل تمهد هذه الرؤية للقول أن الفلسطيني هو كل من يسكن فلسطين، وأن ليس كل الصهاينة متورطين في الإحتلال والإستيطان والقتل والتهجير، وأن النضال هو نضال الفلسطينيين (مسلمين ومسيحيين ويهوداً، أو فلنقل عربا واشكنازا وسفارديم وفلاشا) من أجل إنهاء السياسات الصهيونية، وبعدها يتمتع الجميع بالمواطنة في الدولة الديمقراطية الجديدة؟
وإن أسس هؤلاء استدعاءهم للتجربة الجنوب إفريقية على أسس إنسانوية متداعية من حيث المبدأ، فإن الأكثر دلالة من ذلك أن تصاعد هذه الموجة لم ترتبط بالسياسات الصهيونية التي جاءت لقمع الإنتفاضة الثانية بمقدار ارتباطها بالشكل المسلح للإنتفاضة الثانية، ومن بعدها اعتماد هذا الشكل المقاوم بالذات في قطاع غزة. هذا النوع من المقاومة، وإن لم يخل من ممارسات سلبية، بحاجة إلى النقد والتقويم، يمثل مساساً بالمصالح التي باتت تنسجها نخب ثقافية وأكاديمية مع مؤسسات أهلية وأكاديمية في المركز الرأسمالي، التي نجحت باختراق مثقفي المحيط ومؤسساته بخطاب إنسانوي يستبطن ذات علاقات السيطرة الرأسمالية الإمبريالية.
هذه النخبة الثقافية والأكاديمية الفلسطينية التي تم ترويض جزء كبير منها، باتت تتماهى مع رأس المال الفلسطيني، في البحث عن مسالك هادئة تعيد تعريف الصراع العربي الإسرائيلي، بالطريقة التي تؤمن علاقات التبادل المالي التجاري، والتمويلي المؤسسي بين المركز والمحيط. ويبقى السؤال المفتوح هنا، ماذا لو أقيم الدليل على نجاعة التجربة الفيتنامية أو الجزائرية في المقاومة، هل سيذعن هؤلاء ويتبنون مثل هذه النماذج، أم تبقى قواعد التبادل والتدفق هي سيدة المشهد التنظيري لديهم؟