تُعاني القضية الفلسطينية تراجعاً غير مسبوق في مستويات التفاعل الرسمي العربي، ويشكل التطبيع حاليّاً آخر حلقات هذا التراجع، إذ تتسابق دولٌ عربية لتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال، بعضها في مقابل مكاسب سياسيّة، وأخرى من دون أي مكاسب، أو مبررات تسوقها أمام شعوبها والرأي العام. وبالتزامن مع هذه الموجة الجديدة من التطبيع العربي مع دولة الاحتلال، تعاني المناطق الفلسطينية المحتلة وخاصة مدينة القدس اعتداءاتٍ متصاعدة، وحصاراً ممنهجاً، وموجة تهويدٍ متعاظمة.
فلا يمكننا بحالٍ من الأحوال المرور على ما تشهده القدس من اعتداءاتٍ ومشاريع تهويديّة، إذ يشكل تهويد المدينة المحتلة ذروة مخططات الاحتلال، وتتصاعد محاولاته فرض واقعٍ جديد في المسجد الأقصى، عبر التدخل المستمر في إدارته، واستمرار اقتحاماته، والاعتداء على المرابطين والمصلين، وتتزامن هذه المحاولات مع تصاعد المشاريع الاستيطانية. وتسعى حكومة الاحتلال إلى استغلال أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض، إذ شهدت الأشهر الأخيرة من عام 2020 إقرار العديد من المشاريع الاستيطانية، في البنية التحتية والعطاءات الاستيطانية، إضافةً إلى استمرار أذرع الاحتلال بهدم منازل الفلسطينيين ومنشآتهم، وإحداث تغيير ديموغرافيّ مباشر في المدينة المحتلة.
وتأتي موجة التهويد المتصاعدة هذه، مع محاولات إدارة ترامب إتمام المرحلة الأخيرة من "صفقة القرن"، عبر إطلاق موجة تطبيعيّة مع أكبر عددٍ ممكن من الدول العربية، وما نزال في وسط هذه الموجة؛ إذ ألمحَ ترامب إلى إمكانية انضمام دولٍ عربية أو إسلامية أخرى، في محاولة لتسجيل آخر انتصاراته السياسية تحت عنوان إنهاء القضية الفلسطينية، عبر إدخال شعوب المنطقة في دائرة العلاقة مع الاحتلال.
وإنّ القراءة المتعمقة للظروف التي أحاطت بهذه الموجة الجديدة من التطبيع، ولانعكاساتها القادمة في المجالين الفلسطيني والعربي، تُظهر عدداً من المخاطر التي بدأت إرهاصاتها بالتجلي في فلسطين ومناطقها المحتلة، أو في أنساق التعامل العربي مع الاحتلال، وموقع الأخير جيوسياسياً في محيطه العربي. وفيما يأتي نذكر أبرز سبعة مخاطر، وهي:
1- من التطبيع الرسمي إلى الشعبيّ: يمكن أن تكون هذه الظاهرة أبرز ظواهر الموجة الجديدة من التطبيع، إذ حاولت الدول المطبعة وخاصة دولة الإمارات، إخفاء جريمتها بستار القبول الشعبيّ، فلم تتعامل مع هذا التطبيع على أنه اتفاق سياسيّ فقط، كما تعاملت معه سابقاتها من الدول العربية، بل حاولت الترويج بأنه مطلب شعبيّ، وحالة مقبولة، وروجت أنه تعايش بين "شعبين" و"سلام" واقع بين بلدين، سيجر على المنطقة الخير والبركة، في تجاوز واضح لما يجري في فلسطين، وما يعانيه الفلسطينيون من اعتداءات مستمرة من القدس والضفة وغزة والأراضي المحتلة. وتمظهر ذلك بالصور والمقاطع المصورة حول الزيارات المتبادلة، ووصول آلاف السياح "الإسرائيليين" إلى دبي وأبو ظبي.
2- التقبل العربي لاعتداءات الاحتلال على الفلسطينيين: فعلى إثر تحول الاحتلال إلى دولة "صديقة"، فلا بد أن يتحول نسق التعامل العربي مع اعتداءاتها ووجودها الدخيل في المنطقة، وإيجاد تبريرات لما تقوم به من هجمة تهويديّة تستهدف مجمل الوجود الفلسطيني، وهو ما بدأت إرهاصاته منذ عدة أعوام، عبر وصف المقاومة في غزة بالإرهاب، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، مع الترويج في الدراما عن "جحود الفلسطينيين"، وأن العرب قدموا الكثير ولكن الفلسطينيين لم يقدموا شيئاً. هذا الاستهداف المكثف عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بدأ بإحداث اختراقاتٍ في وجدان الشعوب العربية؛ نعم ما زال محدود الأثر، ولكنه قادرٌ على التأثير مع تكثيف هذه الحملات وزيادة زخمها والمنابر المتاحة لها.
3- الاحتلال من العدو الأول إلى الصديق الأفضل: عملت الموجة الجديدة من التطبيع على ترسيخ ما جرى في السنوات الماضية من تغيير في أولويات الأمن القومي العربي، فلم يعد التعريف التقليدي للصديق والعدو سارياً، بل لم تعد القضية الفلسطينية في سلم أولويات جلّ الدول المطبعة. فالتغييرات الكبرى التي شهدتها المنطقة وما قام به ترامب، حوّل دولة الاحتلال إلى أبرز أصدقاء الأنظمة المطبعة، وحوّل المقاومين ومن يعمل على مناصرة القضية الفلسطينية ودعم وجود الشعب الفلسطيني؛ إلى عدوٍ يستحق الملاحقة والتشنيع والمواجهة، فتصاعد حصار المقاومة وداعميها، حصار حقيقي مسّ مصادر التمويل واعتقال المنتمين إليها، وتسهيل اغتيال شخصيات تسهم في تطوير الجهد المقاوم ودعمه، وما اعتقالات العشرات من الفلسطينيين في السعودية إلا صورة لهذا التحول الدراماتيكي.
4- اختراق القرن: إلى جانب هذا الخلل في موقع فلسطين وقضيتها، تسمح اتفاقيات التطبيع هذه بزيادة نفوذ الاحتلال، وتشرِّع أبواب الدول المطبعة أمام المزيد من الاختراق الإسرائيليّ، في مقابل مكاسب اسمية للدول العربية المطبعة، وتجاربُ الدول العربية التي طبعت في السبعينيات والتسعينيات ماثلة أمامنا، فلم ينهِ التطبيع مشاكلها الاقتصادية، ولم يكن الغطاء الأمريكيّ كافياً لمواجهة ما تعانيه من مشاكل بنيوية، وهي إشكاليات ترسخت في مقابل تفاقم حاجاتها الأمنية لحماية علاقتها مع الاحتلال.
5- التطبيع غطاء تهويد القدس: أما عن آثار التطبيع على القدس والأقصى، فقد بدأت إرهاصاته بالظهور تباعاً، وهي علاماتٌ تُعطينا صورةً واضحة بأن هذه الموجة ستكون لها آثارٌ قاسية على المدينة المحتلة. فقد تساوقت معظم الأنظمة المطبعة مع أطروحات الاحتلال حول المدينة المحتلة، وقبلت بنظرته حول القدس والأقصى، وشرّعت في "اتفاقيات السلام" اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وجعلت أداءهم الصلوات التلمودية "حقّاً" يُماثل حق المسلمين في الصلاةِ فيه، ما يفتح المجال أمام الاحتلال للمزيد من الاعتداء على المسجد، وتحويل التقسيم المكاني للمسجد إلى أمرٍ واقعٍ قريب.
6- ابتداع الاقتحامات العربية للأقصى: ومن مخاطر موجة التطبيع هذه، ترسيخ اقتحامات عربية وإسلامية للأقصى، تحت غطاء "زيارته والصلاة فيه"، وهي زيارة لن تكون مفتوحة إلا للعناصر "المسالمة"، أي أن كل عربيّ سيدخل الأقصى تحت أجندة الاحتلال، موافقاً على روايته التي تسعى إلى إحلال "المعبد" مكان الأقصى، سيكون مرحباً به، بل ستوفّر له قوات الاحتلال الحماية والرعاية حتى داخل الأقصى. أما باقي الأمة من الأحرار، الذين يتمسكون بالأحقية العربية للقدس، فهم "مشاغبون" بنظر الاحتلال والأنظمة المطبعة معها، غير مرغوبٍ فيهم.
7- تشويه مدارك الأجيال القادمة: يرتكب المطبعون جريمة لا تغتفر، فما يجري من تطبيع حاليّ لن تتوقف جريرته على الجيل الحاضر فقط، إذ ستمتد إلى الأجيال القادمة وترسخ موقع الاحتلال في المنطقة، وتحاول سلخه عن ثوابته الأصيلة وتمسكه بقضاياه المركزية، وفي مقدمتها منعه من امتلاك إرادة التحرر، وتكسر حواجز العداء النفسي مع الصهاينة، وتزييف وعي الأمة عبر تكثيف البرامج الإعلامية والمسلسلات التي تهدف إلى تغيير صورة المحتلّ في المدرك الشعبي للأمة، وهو ما بدأنا نراه في تغيير مناهج التعليم، وإلغاء كل ما يشير إلى الاحتلال.
أخيراً، لا تقف مخاطر التطبيع عند هذه النقاط السبع، فالتطبيع هو وسيلة الأنظمة الحالية لتثبيت أركانها، ومحاربة شعوبها في المقام الأول، عبر تحويل المعركة في منطقتنا من صراعٍ من أجل الحقوق الفلسطينية والعربية، ومواجهة أطماع الاحتلال وخططه، إلى معركة مدمرة في الداخل العربي، وترسيخ الخوف. إذ ستحاول هذه الأنظمة كتم كل صوت يريد مواجهة التطبيع، بأي طريقة ممكنة، وإعادة بناء اصطفافات ومحاور، لا تخدم إلا الاحتلال وموقعه في المنطقة. وهو ما يستدعي المزيد من الجهود العربية والإسلامية لمواجهة هذه الموجة من التطبيع، فالمرحلة تستدعي حشد كل طاقة ممكنة، فتبعات الموجة الحالية لن تكون يسيرة أبداً.