الخليل- خاص قُدس الإخبارية: "هارون لن يعود كما كان"، رصاصةً اخترقت رقبته من مسافة صفرٍ أفضت به إلى شللٍ رباعيٍ أدى لمنعه عن الكلام والحركة تمامًا، غير أن عينيه اليوم في غرفة العناية المركزة بالمستشفى تبصران ألمًا كل حين قبل أن يعود لغيبوبة علّها تنسيه تلك اللحظات التي أطلق جنود الاحتلال فيها النار صوبه وهو يحاول انتزاع مولد كهرباءٍ يعود لجاره، كان يحاول جيش الاحتلال سرقته.
الشاب هارون أبو عرام (24 عامًا) من سكان مدينة يطا جنوب الخليل، هدم الاحتلال منزله الذي كان يتحضر للزواج والاستقرار فيه قبل عدة أسابيع، وهدم معه أحلامه وأحلام خطيبته، بل ولم يسلم هارون من اعتداءات الاحتلال إذ أصابه الجنود برصاصةٍ اخترقت رقبته ورأسه حتى باتت حياته على المحك وهو يرقد في هذه اللحظات على أجهزة التنفس الاصطناعي في المستشفى الأهلي بمدينة الخليل.
لم يكن النزاع على المولد الكهربائي بين هارون وجنود الاحتلال هو أصل الحكاية، بل إن آخر مراحل المعاناة التي بدأت بالتنكيل بهارون ووالده قبل اقتياده نحو الجيب العسكري بهدف اعتقاله، وهناك عند الجيب حاول هارون الإفلات من الاعتقال ومساعدة جيرانه باستعادة "المولد"، وهو ما أدى لوقوع صدام بين صدور الأهالي العارية وبنادق الاحتلال امتد لنحو نصف ساعة، ثم أطلق الجنود النار صوب رقبة هارون حسبما يروي خاله، إياد العمور.
ويقول خال المصاب هارون خلال حديثه لـ "قدس" إن العائلة وأم المصاب تحديدًا تناشد جميع الجهات المعنية والمسؤولة بمتابعة قضية نجلهم لإنقاذه من مرحلة الخطر ومساعدته في الاستمرار على قيد الحياة.
فيروس الاحتلال
في سياق متصل، يروي مراد حمامدة عناءه لـ "قدس" وهو من خربة الركيز في مسافر يطا، معاناته مع الاحتلال، ألحقت به خسائر طالت صحته النفسية والصحية وحتى حركته، ذلك كله بعد أن هدم الاحتلال منزله الذي يأويه وأسرته – أربع مراتٍ دون أي ذريعة تذكر، آخرها كان نهاية العام الماضي-.
هدم المنازل المتكرر دفعه إلى العيش هو وأسرته في الخيام، بعد عجزه المادي عن البناء إثر عمليات الهدم التي لم يكف عنها الاحتلال بحقه منذ عام 2018، ومع ذلك لم تسلم الخيمة من جرافات الاحتلال – حتى بات حمامدة في العراء إلى أن سكن وأسرته الكهوف هربًا من حرّ الصيف وبرد الشتاء.
ويقول حمامدة: "تبعات سياسات الاحتلال علينا تشبه تبعات فيروس كورونا التي تضرب الرئة فتضرب الجسم وتعيق الحركة.. وهذا ما يفعله الاحتلال بنا: يهدم البيوت ويمنعنا من وصول الشارع ويمنع الكهرباء والماء، حتى أننا لم نعد نقدر على الحركة وتراجعنا بحياتنا للخلف وصرنا كالأموات مع أننا أحياء".
استهداف الإنسان والحيوان
ويروي رئيس مجلس مسافر يطا، نضال أبو عرام عن ما يعانيه رعاة الأغنام من مشقة، حيث يستهدف الاحتلال أغنامهم ويصادرها رغم أنها مصدر رزقهم وذلك بحجة حماية الطبيعة، فيما يشير إلى أن العشرات من السكان في العقد الأخير راحوا شهداءً وضحايا نتيجة مخلفات الاحتلال العسكرية التي يستخدمونها في المناطق التي يسيطرون عليها تحت مسمى (مناطق إطلاق النار 918) والتي تقع بمحيط 12 خربة يقطنها سكان المسافر.
ويشير أبو عرام إلى أنه وفي سابقة من نوعها، أعطت الإدارة المدنية للاحتلال تسهيلات للمستوطنين بامتلاك الأسلحة والقيام بدور "الجيش" من تفتيش للأهالي وملاحقتهم ومنعهم من البناء للمنشآت وإيقاف عملهم في مدّ الخطوط للبنية التحتية، وتكسير وتخريب مولدات الطاقة الشمسية التي يحصلون عليها بمعاناة شديدة.
إبادة جماعية وغياب حكوميّ
أصبحت مسافر يطا رمزًا للصراع الوجودي الفلسطيني أمام التوسع الاستيطاني الاحتلالي، لذا سعى سكان المناطق المهمشة في المسافر البالغة مساحتها 180 ألف دونمٍ إلى إثبات ملكية أراضيهم لمواجهة الاحتلال قانونيًا وإلى توسيع مناطق التجمع لمنع الاستيلاء كما يؤكد رئيس مجلس قروي التواني، محمد ربعي.
وينفي ربعي في حديثه لـ "قدس" تلقيهم كمجالس بلدية أي مساعدات حكومية، مبينًا "لدينا مساحات شاسعة وأراض زراعية لو كان هناك دعم من عشر سنوات لكانت شهدت تنمية وثروة حيوانية وزراعية، ولكن الحكومة والمصانع الكبيرة لا تستثمر في أراضي المسافر ولا تتابع الوضع الاستيطاني".
ويؤكد أن الخدمات التي تقدمها المجالس للسكان على امتداد 26 كم، من تحسين للطرق وتمديد شبكات المياه يأتي بالشراكة مع المؤسسات الدولية والممولين الدوليين والذي يتم التواصل معهم من قبل المجالس في مسافر يطا "بطابع المجالس الشخصي وليس بطابع حكومي".
ورغم عدم تقديم المساعدات الحكومية، تأتي وزارة الزراعة تلقي اللوم على المجالس لعدم إشراكها بالمشاريع التي تحصدها المجالس وتقنع الممولين بها، حسبما يشير رئيس مجلس قروي التواني، موضحًا "باختصار.. الحكومة لا تمول مناطقنا بشكل يعزز صمود الإنسان على هذه الأرض".
فيما طالب ربعي خلال حديثه لـ "قدس" بضرورة وجود سياسة حكومية داعمة لسكان المسافر الذين يتعرضون حسب تعبيره لإبادة جماعية وتهجيرٍ من بيوتهم، داعيًا الشخصيات والجهات المسؤولة إلى زيارة الشاب المصاب بالمستشفى الأهلي، هارون أبو عرام.
حصاد 2020 الاستيطاني
وأكدت لجان حماية الصمود في مسافر يطا وجبال جنوب الخليل، على لسان منسقها فؤاد العمور، رصد أكثر من 130 إخطارًا من بينها هدم لمنازل ومنشآت ووقف عمل، منها ثلاثين منزلًا تم تنفيذ الإخطار بحقهم وهدمهم ومساواتهم بالأرض فيما تمت مصادرة أربع معدات زراعية وعشرات المركبات التي تعود للأهالي الذين يقطنون المسافر وعددهم حوالي 2500 فلسطينيًا.
ويؤكد العمور لـ"قدس"، أن استراتيجية الاحتلال بمصادرة مئات دونمات الأراضي في عام 2020 تندرج تحت ذرائع اعتبار المناطق الفلسطينية، مناطق أثرية يهودية، وإخطار الأراضي القريبة من الخط الالتفافي العابر من القدس وصولًا إلى بئر السبع والذي يمر من الخليل يبعد مدينة يطا عن مسافرها في محاولة لفصل المسافر عن الوجود والتمدد الفلسطيني.
في الحقيقة.. ليست مسافر يطا بالجغرافيا الكبيرة التي يصعب متابعتها وتعزيز صمود الناس فيها، حتى لاقت هذا الترك وعدم المتابعة، وإذ باتت كلمات "الهدم والإخطار والتهديد" مفتوحةً على احتمالات التكرار يوميًا، فإن مساعي السكان فيها بالثبات والبقاء باتت قرارًا لا رجعة فيه وسط تساؤل سكانها الدائم "متى ترانا وتساندنا الجهات المسؤولة؟".