تهافت عدد من الأنظمة العربية مؤخرًا على إعلان التطبيع الرسمي مع الاحتلال، بدءًا من الإمارات والبحرين مرورًا بالسودان ثم المغرب، وعلى ما يبدو فإنّ مزيدًا من الأنظمة ستنضمّ إلى ركب المطبّعين، وستتوسّع البوصلة لتشمل دولاً إسلامية. ويحاول المطبّعون تبرير سقوطهم في وحل التطبيع عبر ادّعاء تمسكهم بالقضية الفلسطينية، بل والترويج أنّ التطبيع سينعكس إيجابًا على هذه القضية وسيعيد للفلسطينيين حقّهمّ!
لكنّ حقيقة الأمر غير ذلك تمامًا؛ فالتطبيع القبولَ بالنكبة وبالنكسة، وبسلسلة الهزائم العربية أمام الاحتلال ويقرّ لـ "إسرائيل" بأنّها صاحبة الأرض، وهو يسمح للاحتلال بالتّسلّل إلى الوعي العربي، لا سيّما مع الحديث عن التسامح وحوار الأديان، وضرورة قبول الآخر مع العلم أنّ الصراع ليس بين المسلمين واليهود ولكن بين شعب تحت الاحتلال وكلّ المدافعين عن حقّه من جهة واحتلال قام على اغتصاب الأرض وكل الداعمين له من جهة أخرى. ويؤدّي التطبيع بطبيعة الحال إلى تجاوز كلّ الثورات والانتفاضات التي قام بها الفلسطينيون، وبالانتصارات التي حقّقتها قوى المقاومة ضدّ الاحتلال، وتحويلها من فعل مقاوم إلى فعل عبثي، لا سيّما في ظلّ استماتة بعض المنظّرين للأنظمة التي تسير في ركب التّطبيع لتظهير الخسائر البشرية والمادية التي تترتّب على العمل المقاوم من دون الحديث عن الهزائم التي تتراكم في سجل الاحتلال، خصوصًا ما ألحقته به المقاومة في لبنان وفي فلسطين، وكذلك عجزه في وجه الفلسطينيين الذين لا يلبثون يخرجون في وجهه منتفضين على احتلال يسعى بعض بني جلدتهم إلى إحكامه عليهم.
ويعني التطبيع، وما يرتبط به من إقامة علاقات تجاريّة وسياسيّة ودبلوماسية، الاعتراف بدولة الاحتلال وبالواقع الذي فرضته، ومكافأتها على جرائمها، وبسط روايتها ورؤيتها على ما عداها مع تجاهل الرواية الفلسطينية وهدر أيّ حقّ مرتبط بها. وهو كذلك يساعد دولة الاحتلال على المضيّ في سياساتها التي تهدف إلى الاحتفاظ بما سرقت والاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطينية، ولن يضيرها حالة المراوحة ما بين مفاوضات، ووعود بالدخول في مفاوضات، والتحضير لجولات جديدة من المفاوضات، وهو وقت ضائع بالنسبة إلى الفلسطينيين تضعه"إسرائيل "في حسابها مزيدًا من السيطرة والتّحكّم.
ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء لإثبات ذلك، فما يجري في القدس من اعتداءات غير خافٍ على أيّ كان، واعتداءات الاحتلال واضحة لا يمكن أن يحجبها "غربال" التطبيع، من الاستيطان والمشاريع التهويدية إلى هدم منازل المقدسيين وتشريدهم، وطردهم من منازلهم لمصلحة المستوطنين، وحملات الاعتقال والتهويد، والاعتداء على المسجد الأقصى ومحاولة تغيير الوضع القائم فيه، إذ باتت الدول المطبّعة شريكًا في هذا العدوان إذ إنّ التطبيع الذي يندرج تحت "اتفاقات أبراهام" و"صفقة القرن" يروّج للزيارات التطبيعية للأقصى ووضعه تحت سيادة الاحتلال.
إنّ القضية الفلسطينية لم يُكتب لها أن تبقى إلى يومنا هذا إلا بتضحيات أهلها ونضالهم، ورفضهم مشاريع التسوية، وتمسّكهم بالمقاومة بأشكالها كافة، وبدعم من أحرار العالم. ومن الواضح أنّها باتت اليوم، أكثر من أيّ وقت سابق، عبئًا على أرباب مسار "التسوية" والتطبيع الذين يسارعون إلى بناء علاقات طبيعية مع الاحتلال متذرّعين بأنّ التطبيع تمليه المصلحة الوطنية وأنّ هذه فوق أيّ اعتبار.
على أيّ حال، إنّ انجرار البعض إلى وحل التّطبيع لا يلزم إلا من رغبوا بهذا السقوط واختاروه، وهو حتمًا سيجرّ عليهم الوبال وسيجعل الدول المطبّعة في دائرة اختراق إسرائيلي واسع يحمل من المخاطر ما لا يمكن أن يكون خافيًا على أيّ مراقب، إذ إنّ هذه الدول تستدعي العدوّ ليكون في عقر دارها!
ونظرًا إلى ما يحمله التطبيع من مخاطر وتداعيات سلبية على القضية الفلسطينية، فمن المهمّ عدم الاستسلام في وجهه بل العمل على مواجهته والتصدّي له بدلاً من الوقوف موقف العجز في مقابله كأنّه قضاء محكم أو قدر محتوم. وهنا ينبغي تأكيد ما يأتي:
- إنّ أرض فلسطين للفلسطينيين، والاحتلال طارئ وهو إلى زوال، وإنّ أيّ نظرة أخرى إلى الصراع وإلى الاحتلال لا تزال تثبت فشلها وعدم صوابيتها.
- إنّ النضال الذي تراكمت نتائجه على مدى عقود الاحتلال لا يمكن شطبه لأجل رؤى قوى الاستكبار، وهو مسار يعكس عنصر قوة يدعم القضية الفلسطينية ويعزّزها، ومن المهمّ التمسك به من دون أن يعني ذلك ترك المسار السياسي، ولكنهما مساران يتكاملان.
- على دعاة التّطبيع أن يعوا أنّ أيّ حقّ فلسطيني لا يمكن التنازل عنه وإن كان ذلك تحت مسمّى التسامح والتعايش الديني إذ إنّ الأمر ليس نزاعًا على الحق في الصلاة أو على الدخول إلى المسجد، بل هو صراع كنهه وأساسه اغتصاب الأرض، ولا يمكن تجاوزه من بوّابة التشارك في الأقصى.
- الحرص على نشر الوعي حول مخاطر التطبيع من جهة، وحول مركزية القضية الفلسطينية من جهة أخرى وهي قضيّة بذلت من أجلها الدماء حتى لا تموت قبل أن يُرسم حلّها وفق ما يتناسب مع تضحيات أهلها.
- من المهمّ عقد المؤتمرات واللقاءات ضدّ التطبيع، ولكن الأهم هو ألا تتحول هذه المؤتمرات أو اللقاءات إلى لقاءات تنظيرية حول التطبيع ومخاطره من دون اقترانها بخطوات عملية وفعلية لمواجهته والتصدي له.
- العمل على سنّ قوانين في البرلمانات العربية والإسلامية لتجريم التطبيع مع الاحتلال.
- ملاحقة الأصوات الشاذة التي تنادي بالتطبيع في أمتنا واتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحقّها.
- دعم جهود مقاطعة الاحتلال وإبراز جهود ملاحقته وعزله وإظهار حجم رفض أبناء الأمة له.
- إظهار جرائم الاحتلال بحقّ الإنسان والأرض والمقدسات في فلسطين وغيرها، وهي علاقات لا يُتصوّر معها بناء علاقات مع احتلال مجرم.
- إصدار الفتاوى الشرعية التي تؤكد حرمة التطبيع مع الاحتلال بما يؤدّي إلى عزل هذا الخيار الكارثي.