-
ضاقت الجدران على الأحلام
في تلك الأيام كان بإمكانك أن تقرأ على كل جدار ما يمكن أن يلخّص أسباب النزيف: مقاطعة بضائع إسرائيل (وهي دعوات مكتوبة طبعا بدهان "طمبور" إسرائيلي) ، الدعوة للتصعيد، الاحتفاء بذكرى انطلاقة الانتفاضة، الكرازة في الناس بأن الفجر قادم، وأن إسرائيل ليست أقوى من أمريكا وشعبنا ليس أضعف من شعب فيتنام، وبأن الدولة على مرمى حجر، فرض الإضرابات.. إلخ. لكن نقطة ما في التاريخ تقول بأنك مهما بنيت الجدران، فإن تراكم سنوات الانتفاضة (وتراكم الأحلام، وبالتالي: الشعارات) قد جعلها تضيق بالغرافيتي.
"حرس الحدود" اشتغلوا فينا. يعني كانوا يحضرون نوعا من البخاخات الكهربائية الضخمة التي ترشق الحيطان بلون يشبه لون الفحم، أسود خشن، مائل إلى الرمادية. يجعل من المستحيل عليك كتابة شعارك على الحائط بعدها. وهذا ما يجعلك تعمل ساعات إضافية في مجال تحرير فلسطين: إذ أن عليك أولا أن تذهب أول الليل، فتقوم بطلاء الحائط بالكلس، ثم تغيب بانتظار أن يجف الكلس على الحائط، على أمل ألا يلاحظ الناس والعملاء وأبناء الفصائل المنافسة جدارك الأبيض، وفي آخر الليل تكتب شعاراتك. (ثم تعود متسللا إلى منزلك على أمل ألا تلاحظ الغالية غيابك عن فراشك، فتجعل "بابوج البلاستك" يأكل من جمالك (وجنبيك) حتّة. أو لعلها تقوم بما هو أخطر: تبلغ السيد الوالد عنك، فتدخل مجبرا إلى ما يشبه معسكرات العمل ما بعد الحرب العالمية الثانية: محاضرات عن أبناء القيادات الذين في بريطانيا وأمريكا، والذين سيعودون بعد انتهاء هذا كلّه لكي يستلموا البلد التي أكل بابوج الغالية من جنبيك حتّة، فداء لها. (ووالدي، والله العظيم، لم يكن قد تنبّأ بعد ببنت المسؤول التي قالت لعامل يسحله أفراد الأجهزة الأمنية على مدخل جامعة بيرزيت "هاي البلد إلنا إحنا")
بقصد أو بدون قصد، أغفل حرس الحدود بضعة جدران من طلاءه بالرمادي، كانت تلك الجدران مرتقى أنفاسنا ودرّة التاج البريطاني. إذ أن الشعارات الجدارية تظهر عليها من غير سوء.
على هذه الجدران تركَّز المجهود الدعائي للإنتفاضة. هكذا، منحتنا "إسرائيل" هامشا نتقاتل عليه، نحن أبناء الفصائل. كان الأمر يشبه نوعا ما من التدريب على مناطق أ، في المستقبل. مناطق معزولة، وسط التجمع البشري، تفترض أنه من السهل عليك العمل فيها، (المشكلة أن الآخرون يفترضون الأمر ذاته)، وهذا ما يؤدي إلى نزاعات بين التنظيمات. يعني مصيبة لو مسّ طرف النجمة الخماسية الذي رسمته كتائب عمر القاسم، طرف المنجل والمطرقة الذي رسمه أبناء الحزب الشيوعي (حتى لو تعانقا في ملصقات الاتحاد السوفياتي). كان المجهود يتضاعف في جهود الوساطة، ومحاولات البحث عمّن اختفوا لأن أبناء فتح قد قاموا ب"سحبهم" نظرا لتعديهم على شعار فتح.
3.
"فتح مرّت من هنا الآن
يا مرحبا في رمضان"
كان "عبد" هو صاحب هذا الشعار الجداري المبهر، الذي غطّى جدران حارتنا صبيحة الأول من رمضان سنة 1990.
كان عبد يلعب دور جان جاك روسّو في قوّات الشبيبة الضاربة، إذ أنه كان نافورة من السجع المغثي الذي يتحول على أيدي أبناء الشبيبة إلى ما يشبه النص المقدس (مقدّس لأنه لا يسقط بالتقادم التاريخي، يعني عليك أن تحتمل رداءة الخط، ورداءة الخطّ السياسي، وثقل الشعار على الأذن، مع أنّك الآن في شهر ذي الحجّة، وأن مرحبن في رمضان انتهى وقتها )
"من الشمال إلى الجنوب، فتح في كل القلوب"
"من الشرق إلى الغرب، فتح في كل قلب"
4.
"يا مرحبن في رمضان"
انتهى الـ "في رمضان" بطبيعة الحال (وعلم الفلك أيضا) بعد مرور شهر.
من المعروف علميا أن الشهر الذي يتلو شهر رمضان هو ذو الحجة ( أو ذو القعدة.. نسيت بصراحة). وهكذا، لا يعود لبقاء شعار الترحيب برمضان معنى. لكنّه ظلّ على الحائط القريب من دكّانة أنور عرفة بضعة شهور بعد انتهاء "في رمضان" فالحفاظ على العلاقات الوطنية يتطلب استئذان الشبيبة لمسح الشعار. ولنقلها الآن بصوت د. مصطفى محمود: "بالنجاح في الحوار مع الشبيبة، شباب".
5.
انطلاقتنا..
منذ ذلك الحين مرّت تسعة شهور، والشعار الخالد على الحائط. (تزامن رمضان مع يوم الأرض، على ما أذكر) وها شارف يوم انطلاقتنا على القدوم. علينا أن نمكيج الحيطان، بطبيعة الحال.
المشكلة أن عبد قد كتب فتح مرت من هنا في أكثر من مكان، ولا أدري كيف ضربته صاعقة الإبداع قرب دكانة أنور، فأضاف اللازمة "في رمضان".
ذهبنا لنستأذن مسح الشعار من عبد، فكان جوابه أننا كفّار، لأنه لا يمكن مسح الشعارات التي ترحّب بقدوم شهر الخير والبركة.
عدنا جميعا من اللقاء الوطني المثمر، نبكي ونضحك لا حزنا ولا فرحا، كعاشق خطّ سطرا في الترحيب برمضان ومحى (مع التأكيد على محى)، واستمرّت معركة السحب والخطف بين الفصيلين مدّة سنة إضافية، أي حتى موعد رمضان التالي. وحرس الحدود يفصص بذور عبّاد الشمس في محطة الشرطة في رأس العامود على بعد أقل من 700 متر. وما كان يهم حقّا هو حرمة الدم الفلسطيني، شباب.