لن تكتشف الدول التي سارعت وهرولت إلى التطبيع مع الاحتلال الصهيوني مدى خطورة خطوتها حاليًا، وربما لن يكون لذلك أي تأثير سلبي ظاهر على مدار عدة أشهر، أو على المدى القريب، لأن الحركة الصهيونية التي عملت منذ قرون لاحتلال فلسطين وأسست لدى الغرب "قاعدة" تعمل لأجل تلك الفكرة البغيضة، لن تضرب ضربتها سريعًا في الشرق الأوسط وتحديدًا في الوطن العربي.
الآن هم في "شهر العسل" الذي سيُحيل أيامهم إلى ظلامٍ دامس بعد أن تتمكن الصهيونية من مفاتيح الدولة وتضع لنفسها العديد من المراكز والقواعد الثابتة، والتي ستبدأ التأثير بها وعبرها على قرارات تلك الدول، لا سيما وخصوصًا في الدائرة الدولية، وتحديدًا في الأمم المتحدة وما يتبع لها من جمعيات ومؤسسات ودوائر، ولعل تبرع السودان بالتصويت لصالح الاحتلال هو أبرز دليل على ما نقول.
عندما جاءت الحركة والعصابات الصهيونية إلى أرض فلسطين التاريخية، والتي سبقت مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897، جاءت تحت حجج واهية مثل زيارة الأراضي المقدسة أو الاستثمار، لا سيما في الزراعة.
دخل بعضهم إلى فلسطين على أنهم "فلاحون" وبدأوا استيطانهم وسيطرتهم على الأراضي العربية الفلسطينية عبر مستوطنة "زراعية" إلى أن مُنحوا "وعد بلفور"، ومن ذلك قبل تحريض الحركة الصهيونية لليهود في العالم على عدم الاندماج مع المجتمعات الغربية، لا سيما الأوروبية؛ التي سعت جاهدة إلى التخلص من اليهود على حساب أراضٍ عربية استعمرتها كثيرًا بعد مرض الدولة العثمانية.
وإلى جانب ذلك كانت الأهداف الاقتصادية عاملاً مهماً من عوامل قيام الحركة الصهيونية وتشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين وإقامة "وطن قومي لهم" على أرضها، زاعمة أنها "أرض الأجداد".
وفي عام 1908، أنشأت الحركة الصهيونية "مكتب فلسطين"؛ وقد تأسس هذا المكتب في مدينة يافا من قبل المكتب التنفيذي للمنظمة الصهيونية باعتباره وكالة مركزية للاستيطان اليهودي، ويقوم بإنشاء الشركات لشراء الأراضي.
فالحركة الصهيونية، ومعها دولة الاحتلال الصهيوني، تصنف في كثير من أرجاء العالم، على أنها حركة ودولة عنصرية، ليس لمواقفها من العرب، وإنما لتمييزها بين اليهود أنفسهم، ومن أمثلة ذلك تهميش يهود الفلاشا الأحباش ويهود المشرق والمغرب الإسلامي.
وبالعودة إلى التطبيع الذي تتسابق عليه وله الأنظمة العربية، أو بعضها، فهو ليس لصالح الشعوب المقموعة والمغلوب على أمرها في غالب الأحيان، وإنما لمصلحة صهيونية عليا؛ هدفها الظاهر أنها تُريد أن تصنع "السلام المزعوم" في المنطقة، ولكنها على المدى البعيد تُريد أن تُحقق الهدف الذي فشلت في تحقيقه قديمًا منذ أن وطأت أرجلهم أرض فلسطين التاريخية، وهو إنشاء "دولة إسرائيل" ما بين النهرين.
ويستفيد من التطبيع أيضًا الأنظمة العربية، التي تسعى لإرضاء الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة الدولية الخارجية لكي تحافظ على كرسي النظام والحكم، بعد أن أقنعتهم تل أبيب وواشنطن بـ "بُعبُع" إيران في الشرق الأوسط، وقبل ذلك "التنظيم العالمي" للإخوان المسلمين.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية، فلها رجالها الذين يُؤمنون بعدالتها وعدالة مطالبها وهم على يقين تام أنهم خط الدفاع الأول في فلسطين المحتلة عن أرض فلسطين وعن الأراضي العربية والإسلامية التي تُشكل هدفًا للحركة الصهيونية على المدى البعيد، لذلك أي عملية تطبيع سيكون خطرها على الدولة المُطبعة وأراضيها أكثر مما يجلب الضرر لفلسطين وقضيتها، وإن كان التطبيع، وتحديدًا من دول عربية ذات مركز وثقل في الشرق الأوسط، يؤثر دوليًا على القضية الفلسطينية.
الضرر على القضية الفلسطينية حاصل وواقع من الداخل والخارج، بدءًا من التوقيع على اتفاقيات أوسلو بأقسامها السياسية والأمنية والاقتصادية، إلى الاعتراف بـ "دولة إسرائيل" على 75% من أرض فلسطين التاريخية، وقبل ذلك وضع فلسطين في موضع الاختيار بين معسكر الاتحاد السوفيتي سابقًا والولايات المتحدة خلال وبعد الحرب العالمية.. وصولًا إلى الانقسام الداخلي الفلسطيني منذ حزيران (يونيو) 2007، وليس أخيرًا الرهان على الأنظمة الخارجية، لا سيما الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية، في تنظيم عملية سلمية لتحرير فلسطين، وهي ذاتها التي كانت قد منحت شتات اليهود موطأ قدمٍ في أرض فلسطين ابتداءً من تسهيل انعقاد مؤتمر بازل في سويسرا إلى منح اليهود وعد بلفور إلى إقرار قرار التقسيم في الجمعية العام للأمم المتحدة تحت رقم "181" بتاريخ 29 نوفمبر 1947.
الاحتلال الصهيوني يسعى لأن يُثبت أقدامه أكثر من أي وقت مضى في منطقة الشرق الأوسط، لكي يُحقق عدة أهداف؛ أولها أن يكون "موطنًا" لصهاينة العالم وأن يُشكل أمامهم منطقة آمنة يستطيعون العيش فيها بعد أن أثبتت #المقاومة في #فلسطين_المحتلة زيف هذه النظرية وأجبرت اليهود على #الهجرة العكسية من أرض فلسطين التاريخية المحتلة إلى بلادهم الأصلية التي جاءوا منها.
والهدف الثاني يسعى الاحتلال من خلاله لتثبيت أقدامه في منطقة الشرق الأوسط كي يبقى السرطان الذي يُؤرق دول المنطقة ويُشتت تركيزها، وعبر الأنظمة التي طبّعت وستُطبع معه سيكون له هدف آخر وهو القضاء على كل أمل فلسطيني أو عربي أو إسلامي أو حتى دولي في تحقيق العدالة للفلسطينيين وإعادتهم إلى مدنهم وقراهم وأراضيهم التي هُجروا منها قسرًا وتحت وطأة السلاح والجرائم، والتي تمت أيضًا بمشاركة دولية وتواطؤ عربي رسمي.
وبذلك يكون قد حقق الهدف الثالث، وهو إبقاء أنظمة الدول العربية تنظر إلى الفلسطينيين وكأنهم "مشكلة" في الأراضي العربية التي لجأوا إليها عامي 1948 و1967 وما بينها وما بعدهما، حيث تستهدف إبقاء الدول العربية مشغولة بأوضاعها وتُنسيهم أساس المشكلة وهي احتلال فلسطين وطرد أهلها الأصليين منها إلى تلك الدول.
الاحتلال وعبر عمليات التطبيع يُريد أيضًا قطع الطريق أمام أي وحدة عربية أو إسلامية مُستقبلية، لأن في ذلك إضرار بمصالحه ومشاريعه التي يسعى لها في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما السيطرة على ثرواتها؛ وفي غاز مصر أكبر دليل، وبذلك يضمن أيضًا الانقضاض الكامل على مقومات القضية الفلسطينية العادلة وأبرزها حق العودة والقدس والمقدسات التي يسعى لتهويدها لإثبات وجود وتاريخ مزعوم له في أرض فلسطين العربية الإسلامية.
خلاصة الأمر؛ التطبيع خيانة وفيه أهداف صهيونية سياسية أكثر من كونها تزعم بالسعي خلف "سلام زائف"، والمفاوضات كذلك ثبت بكل الوسائل أنها طريق مسدود يستغله الاحتلال لفرض وقائع على الأرض وتثبيت الاستيطان.. وفلسطين تعود عبر وحدة وطنية داخلية (أراها اليوم بعيدة جدًا بعد الإعلان عن عودة العلاقات مع الاحتلال والعودة للتقرب من البيت الأبيض) تصاغ عبرها استراتيجية وطنية وبرنامج شامل يقوم على المقاومة بكافة أشكالها لتحرير أرض فلسطين ومقدساتها.