شبكة قدس الإخبارية

كبُر صغارُ فلسطين ولم ينسوا

124478737_377325483517005_1696972831611965387_n
هنادي العنيس

"الكبار يموتون والصغار ينسون" مقولة أطلقها ديفيد بن غوريون عام 1948، مؤسس الكيان الصهيوني فوق فلسطين التاريخية، وعلى نهجها سار كثيرون ممن استظلوا بأمريكا ورقصوا في عتمة "إسرائيل".

مرّ على هذا التصريح العلني 72 عاماً، أُريد من خلاله حذف الدولة الفلسطينية بهويتها وثقافتها وموروثها من الوعي الجمعي العربي باستراتيجية صهيوأمريكية، ونُفذ من خلاله مجازر تطهير عرقي وجرائم حرب ارتكبتها جماعات تمارس الإرهاب باستخدام القوة المفرطة في وجه العُزَل.

وسُنت قوانين غير شرعية سعت لإذابة أصحاب الأرض وتحطيم إرادتهم، رجال يتم فرزهم من قائمة محملة بأسمائهم، ليكونوا ضحايا القتل المستهدف، ويصفون على الفور أمام رؤوس واشين مغطاة بكيس قماش به فتحتان عند العينين فقط.

وحين مُلئت بطون السجون بأسرى من جميع الفئات العمرية، وأخضع بعض ممن هم دون سن العاشرة للحبس المنزلي، اغتصبت عصابات الاحتلال المدعومة من الدول الغربية الأرض الفلسطينية، وأقامت كيانها الذي حمل اسم "إسرائيل" فوق أنقاض أكثر من 500 قرية هدمت، وهجر أهلها، وصودرت أملاكها، بما فيها أراضٍ عامة، ووقفية وخاصة.

أما من نجوا، قطعوا الدروب مشيًا على الأقدام أو قسرًا بالحافلات تحت قصف القنابل. طردوا بالقوة ومن ثم رُفضت عودتهم التي عجنت خلالها المساجد والكنائس بالطين، ومحيت الأسماء العربية من السجلات لتستبدل بأسماء توراتية في الوثائق والكتب والخرائط وعلى اليافطات في كل مكان، وشرعت لسرقة مساحات واسعة تحت دعاوي متنوعة لأغراض عسكرية وأمنية أو تزوير في عمليتي البيع والشراء، وصولاً لسن قوانين ضد الوجود الفلسطيني بحذ ذاته.

فمنذ النكبة الفلسطينية عاش الاحتلال الإسرائيلي على سلاح الاغتيال في شق طريقه، بـ 2700 عملية قتل متعمدة بمعدل 38 واحدة سنوياً، شملت قادة سياسيين وعسكريين وعلماء وأدباء فلسطينيين وعرباً وأجانب داخل وخارج فلسطين، كركن راسخ بعقيدته الأمنية في وضع حد لحياة من يعتبرهم خطرًا على استمرار بقائه.

بل وحتى الموتى في مقابرهم أقلقوا جرافاته التي نبشت عظامهم بعمليات حفر عُمِرَ فوقها فنادق سياحية وشقق سكنية ومساكن طلبة ومواقف سيارات، بعد إلقاء رفاتهم في النفايات وإزالة شواهدهم التي تدل على السكان الأصليين للبلاد.

وانتهج في حملات اعتقالاته، التي مرّ بتجربتها أكثر من مليون فلسطيني حتى تاريخ اليوم، أداة سياسية لشكل من أشكال العقاب الجماعي خلال الغارات الليلة بين الساعة الثانية عشر والثالثة صباحاً، لتثبيط المقاومة الفردية، ومحاولة لوقف الشعب الفلسطيني الذي يناضل بموجب حقه المشروع في تقرير مصيره. معتبرة أن كل من لديه القدرة على توحيد قضيته الوطنية، يشكل تهديدًا لها ويتم اعتقاله، دون أن يقتصر ذلك على نشطاء المقاومة فحسب، وقيادات الفصائل فقط، وإنما امتد وشمل الكل الفلسطيني، وطال كافة فئات وشرائح مجتمعه من جميع المستويات والطبقات، ذكوراً وإناثاً، صغاراً ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً.

وما كانت كل هذه المُمارسات لآليات الطرد والترويع وسلب الحقوق التي اتبعت جنباً إلى جنب في ثلاثة اتجاهات ضد الإنسان وضد الأرض وضد الذاكرة، إلا استمراراً لطمس جرائم الإبادة التاريخية، حتى فشلت في كي وعي من احتفظوا بأوراق ملكيتهم للأرض ومفاتيح منازلهم، لتعود في كل مرة إلى نقطة الصفر أمام الراية الثانية لحق العودة التي حملتها الأجيال.

ورغم كل الدعم الخارجي والصيحات الاستعمارية التي استغلت الدين استغلالاً بشعاً، مازالت الأرض تضج بصراخ مُعلن عن فلسطينيتها، ويتخذ أصحابها أشكالاً من المقاومة المختلفة التي تعود طبيعتها إلى المرحلة السياسية المُعاشة، وتوريثها لمن تلده أرحام نسائهم، لتمثل فجراً صادقاّ يعيد وضع بلادهم على رأس الدول العربية، فيرضع الطفل الفلسطيني رفضه لرخي قبضته عن المفتاح ويكبر دون أن يغير طريق العودة.

ذلك لأن شعب الجبارين حمل أمانة ثقيلة بتوريث إيمانه في حب الوطن، مُصراً على غرس خارطته في عيني أبناء الحجارة ليروه في كل شيء، فهم من قلبوا الطاولة في وجه عدوهم المُحتل، أربكوه بقدرتهم على كتابة التاريخ من جديد في كل مرة، وهم يهتفون في نفس طويل بذات الحجارة الفلسطينية التي تُقذف من باطن يد حرة تلوح بشارة النصر على أرض تستحق الحياة، أنهم لن يستسلموا في مهمتهم الصعبة عن حماية ما تبقى من هويتهم، مواصلين العمل جماهيرياً وقانونياً وسياسياً، مهما غنّى الاحتلال نشازه، ورتب صفقات في غرف تل أبيب المغلقة.

ليعود "بن غوريون" نفسه مُصرحاً مرة أخرى في حوار له مع "ناحوم غولدمان" رئيس المؤتمر اليهودي العالمي عام 1956، قائلاً: "ربما نسوا في جيل أو جيلين ولكن الآن لا مجال أن ينسوا." ويُذهل ابن غولدمان - كما قال- من كل ما سمع.

 

* الصورة من المعهد الهولندي لدراسات الشرق الأدنى بعدسة المصور فرانك شولتون، لبائع متجول يبيع جريدة فلسطين في يافا عام 1921.