أعاد الانقسام الفلسطيني، الذي فُرض على الشعب منذ 14 حزيران/ يونيو 2007، ظواهر عدة كانت قد أوجدتها اتفاقيات أوسلو المشؤومة ورسختها فكرًا على أرض الواقع؛ أبرزها الاعتقال السياسي وتغييب الآخر، هذا إلى جانب إغلاق مؤسسات "المعارضة" ومحاربة كل الأفكار التي لا تتوافق والحزب الحاكم؛ الذي دعا إلى انتخابات تشريعية وبلدية جديدة بعد قرابة الـ 13 عامًا على اختيار الشعب لممثليه في البرلمان والبلديات وعديد المؤسسات الأخرى، تخللتها هبة النفق عام 1996 وانتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية) عام 2000-2005، قبل أن ترفض شرائح مختلفة في ذلك الحزب نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2006، وتحاول تعطيل مخرجاتها لينفجر الوضع إلى مواجهة عسكرية في قطاع غزة ألقت بظلال وآثار سيئة على الضفة الغربية، نتج عنها انقسام مستمر، وربما سيطول بعد وصول رئيس آخر للبيت الأبيض؛ جو بايدين والذي ربما سيكون تميمة جديدة للعودة إلى الطريق الآخر المغلق (مفاوضات التسوية السلمية)، والتي في جلّها تتناقض وكل البرامج السياسية للعديد من الفصائل والأحزاب على الساحة الفلسطينية، وتحديدًا الطرف الآخر في الانقسام؛ حركة حماس.
ولم تستطع أي اتفاقية، حتى اللحظة، أن تحسم الجدل القائم بين قطبي الانقسام، ولم تُثبت الفصائل الأخرى أنها قادرة على أن تكون بديلًا أو أن تجد للشعب حلًا يُبدلهم الوضع القائم بآخر أقل ضررًا وأحسن حالًا؛ ليس لأنهم لا يستطيعون، وإنما لأن الشعب سئم كثرة الاتفاقيات وتشكيل اللجان والنتيجة الواحدة كل مرة؛ فشل مُطبق وإلقاء اللوم على الآخر بأن لديه أجندة خارجية أو ينتظر انتظامًا جديدًا أو انفراجة في طريقه القديم. هذا إلى جانب فقدان الثقة (إن جاز التعبير) في كثير من الفصائل.
والغريب في كل ذلك أن الفصائل، وفي كل مرة ووقت، يطل علينا المتحدثون باسمها ليؤكدوا على حل واحد لا ثاني له؛ أن الوحدة الوطنية طريق حل قضيتنا الفلسطينية ولا نُصرة لها، حتى دوليًا، إلا بالوحدة والاتفاق على استراتيجية وطنية.
وفي خضم كل ذلك الخاسر الوحيد هو الشعب، عبر عدة محافل رافقت الانقسام؛ أولها تغييب البرلمان وتعطيل ونفي الحياة والسلطة التشريعية.. وهو ما أتى بثمار ونتائج غير حميدة على مختلف أطياف وفئات الشعب، لا سيما تلك التي تُكافح يوميًا لتأمين حياة كريمة، ناهيك عن استغلال تأزم الوضع التشريعي ومحاولات تمرير قوانين ومعاهدات لا تتوافق مع أي اعتقاد أو فكر للشعب.
وفي قراءة أخرى للانقسام وأسبابه، فإن برامج الفصائل وما أسست عليه والأهداف التي انطلقت لأجلها، ورفض التنازل داخليًا وتوحيد الجهود في سبيل تحقيق الحلم الفلسطيني، تقف عائقًا هي الأخرى أمام بث الحياة في أي اتفاقية لإنهاء الانقسام.
الرئيس الراحل ياسر عرفات زاوج في كثير من مراحل حياته ونضاله بين السياسة والسلاح، لا سيما في سنوات الانتفاضة الثانية.. كذلك حركة "حماس" فعلت ذلك ونجحت هي الأخرى، قبل أن يتم محاربة تجربتها وإفشالها بدعوى ارتباطها بـ "فكر عالمي"!
اليوم، ومنذ عدة شهور، تُدار جولات حوار داخلية وثنائية بين "حماس" و"فتح" للخروج بصيغة توافقية تنهي الانقسام على الساحة الفلسطينية، الغريب في كل هذه المعادلة أن الحركتين اتفقتا على أن إجراء انتخابات جديدة هو الحل للحالة الفلسطينية الراهنة!.. وكأنهم نسوا أن الانقسام بدأ فعليًا عقب الخروج من مقاومة الاحتلال (بانتهاء مظاهر الانتفاضة الثانية بدايات عام 2005) إلى الانتخابات التي غابت عنها أي أرضية لحماية نتائجها؛ وذلك ما أثبتته الأحداث التي سبقت الانقسام ورفض الموظفين الامتثال لبرامج "وزراء حماس" في الوزارات بالضفة وغزة.
هذا لا يعني أبدًا أن العملية والتحولات السياسية هي سبب الانقسام على الساحة الفلسطينية، ولكن فعليًا هناك عوامل وتدخلات خارجية تُساهم في إطالة عمر الانقسام لعدة أسباب؛ أهمها إضعاف الجبهة الفلسطينية والإبقاء عليها متفرقة، لأن الفصائل عندما توحدت في انتفاضة الأقصى والانتفاضة الأولى أذاقت الاحتلال وأذنابه وبال أمرهم.
وهذا ما تُؤكده صحيفة "الأخبار اللبنانية"، التي قالت إن حركة "فتح" قد خفّضت تواصلها مع "حماس"، مُعلّقةً آمالها كافة على إدارة جو بايدن، وقَدّمت سلفاً إلى الأخيرة مجموعة خطوات "حسن نية".
وأضافت الصحيفة، نقلًا عن مصادر لم تُسمها: "تعثّرت المصالحة بين الحركتين من جديد، فيما تبيّن ذلك بوضوح بعد إعلان فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة".
وكشفت مصادر مطلعة أن الاتصالات توقفت كلّياً، بعدما تَجدّد الأمل لدى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في عودة مسار المفاوضات وإيقاف الإدارة الأمريكية ضغطها السابق و"صفقة القرن".
وتوقعت مصادر "الأخبار" أن تواصل فتح إدارة ظهرها للمصالحة، وتأجيل عقد الاجتماع الثاني للأمناء العامين للفصائل، والمصير نفسه للانتخابات، خاصة أن أمين سرّ اللجنة المركزية لـ "فتح"، جبريل الرجوب، طلب من قيادة حماس التمهّل في المصالحة حتى "إنهاء العقبات التي تُؤخّرها".
وتتلخص الحالة الفلسطينية حاليًا بـ "تآكل الشرعيات"، لا سيما مؤسستا الرئاسة والبرلمان؛ واللتان انتهت قانونيًّا ودستوريًا فترتهما التي مُنحت لهما من قبل الشعب، والتي حُددت قانونيًا بـ 4 سنوات، (لم يحكم فيها التشريعي عامًا واحدًا قبل أن يُعطل)، ناهيك عن منظمة التحرير ومؤسساتها والمجلس الوطني الفلسطيني.
المصالحة والوحدة الوطنية ضرورة فلسطينية مُلحة في وقتنا الحالي، تتطلب من الجميع التعالي على المصالح الغير مشتركة والنزول عن الشجرة إلى أرضية مشتركة تُنهي 14 عامًا متواصلة من الانقسام وحالة التشرذم الفلسطيني التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى الحضيض محليًا وعربيًا قبل أن يكون ذلك دوليًا.
المصالحة شأن داخلي لا يحتمل تدخلات أو مصالح إقليمية، لأن في تحقيقها الحفاظ على الوطن والمواطن وقضيتنا العادلة التي تواجه سيناريوهات "تصفوية" كبيرة وخطيرة؛ لا سيما مع هرولة العديد من الدول العربية نحو مستنقع التطبيع مع الاحتلال.