قد يتنفس العالم، ونحن الفلسطينيين خاصّة، الصّعداء برحيل ترامب وإدارته الصهيونية من بومبيو إلى كوشنر وفريدمان وغيرهم من أقطاب مخطط الإجهاز على القضية الفلسطينية المسمى بـ"صفقة القرن"، وسحب سيادة "إسرائيل" الفعلية على كامل أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر وبسط هيمنتها على المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.
ولكن عند التمعّن بهذه المفردات سالفة الذكر نكتشف أنّنا ردّدناها كعرب وفلسطينيين بصياغات مختلفة منذ بداية المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، حيث اعتبرناه "قاعدة إمبرياليّة متقدّمة" و"رأس حربة" للهيمنة الغربية على المنطقة العربية وشعوبها ومقدراتها.
وبهذا المعنى، فإنّ خطة ترامب هي طبعة جديدة لمشروع قديم قائم وفاعل ولم يتوقف يوما عن أداء الدور الذي أنيط به وعن التقدم باتجاه تحقيق كامل أهدافه، وسط معيقات وعقبات كبيرة - تبطئ حركته أحيانا وتحتاج إزالتها إلى الكثير من الجهود - وضئيلة أحيانا أخرى تضمن له سرعة التقدم والاقتراب من غاياته النهائية.
والحال كذلك، فإنّ خطة ترامب التي جاءت في مرحلة ضمور عربي وفلسطيني غير مسبوقين، إعادت رسم خطوط المشروع الاستعماري والدور الموكل لإسرائيل بصفتها الذراع الضاربة والقاعدة المتقدمة للدول الاستعمارية وعلى رأسها أميركا.
وكان من الطبيعي أن تطيح تلك الخطة ببعض ما اعتبر منجزات فلسطينية وعربية تحققت في مرحلة أفضل من الصراع مع هذا المشروع، مثل تكريس حل الدولتين المنطلق من قاعدة "الأرض مقابل السلام"، وما يسمى بالمبادرة العربية القائمة على قاعدة "الأرض مقابل التطبيع"، أان تعيد فرض السلام والتطبيع بقوة الأمر الواقع وتوازن القوة.
من هنا، فإنّ من يرجو الفرج من بايدن هو مخطئ ليس لأن العجلة لا ترجع إلى الوراء، بمعنى أن الأخير لا يستطيع إعادة السفارة الأميركيّة إلى "تل ابيب"، وسحب الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، ولا سحب الاعتراف بسيادة "إسرائيل" على الجولان، ونزع الشرعية التي أعطيت للاستيطان، وغيرها من الخطوات السياسية التي نفذها ترامب بهذا الصدد، بل لأنه لن يرغب بذلك أيضا، وهو الذي صوّت كعضو كونغرس، في حينه، إلى جانب قرار نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس، والذي جرى تجميده منذ عام 1995 وحصل على أصوات الأغلبية من يهود أميركا، ويشترك في الرؤية الأميركيّة الاستعمارية التي تنطلق من تعزيز دور إسرائيل ومكانتها في المنطقة.
ومن يعتقد أنّ هناك حياة لحل الدولتين بدون القدس وأن بامكانه مواصلة المفاوضات بدون القدس، ليس أنّه لا يعرف الجغرافيا الفلسطينية وهي أن المدينة تقطع شرقيّ الضفة عن غربيّها وشماليّها عن جنوبيّها، وتشكّل مساحتها المخططة المضمومة لإسرائيل ما يعادل ثلث الضفة الغربية، التي تشكل منطقة الأغوار التي تحدثت "صفقة القرن"، عن ضمّها لإسرائيل ثلثها الثاني، بل أنّه يجهل، أيضًا، حقائق التاريخ الذي شكّلت القدس على امتداده قلب فلسطين النابض، وكانت حديثا سبب انفجار ثورة البراق عام 1929 وانتفاضة الأقصى عام 2000 وتفجير مفاوضات كامب ديفيد وتعثر مسار أوسلو.
في ضوء ذلك، فإنّ نجاح بايدن سيعمق من مأزق مسار أوسلو الذي وصل إلى طريق مسدود ولن يساهم في حله، لأنّ استئناف المفاوضات بدون القدس وبدون حل الدولتين سينزع من أصحابها المبررات التي قدموها على مدار 26 عاما من المفاوضات العبثية التي لم تؤدِّ لا إلى القدس ولا إلى دولة فلسطينية.
وفي هذا السياق، تصحّ المقارنة التي أجراها أحد الكتاب الإسرائيليين بين نتنياهو - الذي عارض أوسلو وكان متحمسا للاستيطان - وبين رابين، صانع أوسلو الذي عارض الاستيطان لكنه استثمر في المقابل مليارات الشواقل بشوارع التفافية في الضفة الغربية ساهمت في زيادة الاستيطان بعدة أضعاف.
وكما هو معلوم، فإنّ الانتعاش الذي حققه الاستيطان في ظل أوسلو كان غير مسبوق بعد أن وفّر له الاتفاق الأمن والأمان والشرعية، علما أنّنا لا نفاضل بين مسار أوسلو وخطة ترامب فكلاهما يجلب الدمار على القضية الفلسطينية.
المصدر: عرب 48