غالبية الناس في أقطار الوطن العربي ضد التطبيع مع "إسرائيل"، وذلك رغم أنهم يرزحون تحت أعباء الاستبداد والفقر والحروب الأهلية، ورغم حملات التضليل المبرمجة وشطف الدماغ، التي تقودها وسائل إعلام ضخمة ممّولة من أنظمة لا تجيد سوى خدمة الخارج وقمع الداخل. وتصدرت نسب الرفض العالية دولًا مثل الجزائر 99%، لبنان 94%، الأردن وتونس 93%، السودان 79%.
هذا المعطى أكده الاستطلاع الذي أجراه "المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات" في الدّوحة على عيّنة شملت 28000 مواطن عربي. أظهر الاستطلاع، الذي يحمل اسم "المؤشر العربي" أن معدل نسبة الرافضين للتطبيع في عموم الوطن العربي تصل إلى 88%، وأن قضية فلسطين لا تزال في نظرهم قضية عربية. كما كشفت أبحاث إسرائيلية أن الدعاية للتطبيع والصهيونية في كل من الإمارات والبحرين، هي موجّهة وليست عفوية، وأن معظم السكان هناك غير راضين عن تحالف أنظمتهم مع نظام الاستعمار الصهيوني.
ودار جدل في بدايات الثورات العربية عن حصّة فلسطين في جملة المطالب والشعارات التي رفعتها الجماهير المنتفضة والغاضبة سواءً على الأنظمة الجمهورية أو الملكية. فهناك من رأى أن أولويّات الناس تتلخص الآن في التخلص من أنظمتها المستبدة، إذ عاشوا لعقود في ظل الوعود الكبيرة عن التحرير والتنمية، ترافقها عملية قمع يفوق الخيال وسحق للمجتمع المدني والسياسي. وقد يكون هذا منطقيًا، إذ أن الناس المنتفضة أدركت، بفطرتها، أن الفشل في تحقيق التحرر من تبعية الخارج والتحرر والنهضة على المستوى الداخلي مردّه إعادة إنتاج أنظمة ما بعد الاستعمار المباشر في صورة أنظمة مافيوية ذات أقتصاد ريعي، فاسد ومفسد، وأن تغيير هذه الأنظمة سيحقق الهدفين. ولكن هناك أوساطًا قفزت على ظهر الثورات راحت، مبكرا، تنزلق باتجاه الخارج وخاصة لأنظمة الغرب وترسل رسائل متهافتة لطمأنتها بخصوص العلاقة تجاه من يعتبرهم الغرب - وخاصة الإدارة الأميركية - قوىً متطرفة، في فترة باراك أوباما. وقد برز هذا التوجه أكثر في أوساط من سعى في الخارج إلى تمثيل الثورة السورية، التي تحولت إلى حرب أهلية دموية.
لكن كان يمكن ملاحظة حضور القضية الفلسطينية - وإن بصور متفاوتة - في ثورات عربية أُخرى مثل مصر وتونس واليمن. وكان حضورها لافتًا في الثورة المصرية المغدورة، عندما توجهت الجماهير الثائرة إلى سفارة إسرائيل وأحرقتها.
وبعد تدمير الثورات، الذي حدث بفعل تضافر ممارسات الأنظمة الوحشية مع الخارج المتوحش، غابت فلسطين، كنشاط ميداني، في معظم الأقطار العربية. وتقلّصت الأصوات العالية لصالح قضية فلسطين إلى حدٍ كبير. ويفسّر هذا الانحسار حالة اليأس والخذلان التي منيت بها جماهير الثورة وشبابها ليس فقط بسبب همجية أعدائها المباشرين - الأنظمة والقوى الخارجية، سواء تلك التي استعان بها النظام أو التي استعانت بها قيادات ثورات في بعض البلدان العربية – بل، أيضًا، بسبب قصور وأخطاء الأطر السياسية والحركية التي حاولت تمثيل الثورات من موقعها في المنافي.
وأعتقد أن الذي أبقى فلسطين خلال الثورات العربية حيةً بين الشعوب العربية هي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والانتفاضات الشعبية المتفرقة التي حصلت في منطقة القدس تحديدا، وإلى حدٍ ما الحراك الشعبي داخل الخط الأخضر، خاصّة في معركة مواجهة مخطّط برافر الصهيوني الاقتلاعي ضد فلسطينيي النقب على طول عام 2013. ففي قطاع غزة المحاصر، وفي الوقت الذي كانت قوى أخرى متورطة في حروب أهلية، خاضت المقاومة معركتي دفاع أسطوريّتين عن أهالي غزة منذ اندلاع الثورات عام 2011. وليس أمرًا مفروغًا منه أن تواصل المقاومة الفلسطينية القتال والدفاع عن نفسها لأكثر من 55 يومًا في إحدى المعركتين في جيب جغرافي صغير جدا، مكتظٍّ بالسكان ويعيش حالة بؤس اقتصادي مروّعة، ومحاصر من قبل المستعمر الصهيوني ومن نظام عبد الفتاح السيسي العميل، وفي ظرفٍ عربي مثقل بالجراح والخراب.
أمّا على الصعيد العالمي، وتحديدًا على مستوى المجتمع المدني، لعبت حركة المقاطعة (BDS) - ولا تزال - دورًا محوريًا ليس فقط في إبقاء القضية الفلسطينية حيةً، بل حولت هذخ الساحة إلى ساحة مواجهة سياسية وأيدلوجية وأخلاقيّة حامية الوطيس، تقضّ مضاجع "إسرائيل"، وهي التي لا تملك أيًا من الموارد المالية التي تملكها مؤسسات عربية وفلسطينية رسمية. فاللجنة الوطنية التي أطلقت نداء المقاطعة من رام الله عام 2005، تعتمد على التطوع والموارد البشرية والنشطاء المثابرين وذوي الرؤية الوطنية والإنسانية الكونية التحررية.
لا يجوز التقليل من خطورة وكارثية التطبيع مع "إسرائيل"، والذي بات تحالفًا أمنيًا علنيًا، مع نظامي الإمارات والبحرين، والذي من المتوقع أن تسقط أنظمة أخرى في مستنقعه متحدّية مشاعر وإرادة شعوبها. فهو يضيف أثقالًا جديدة على كاهل الشعب الفلسطيني وأمام مهام القوى العربية التحررية الوطنية الديمقراطية.
فما هو السبيل إلى فرملة هذا الاندفاع نحو السقوط ومنع إمكانية تكيف شرائح شعبية مع هذا السقوط، إذ تستغل القوى الخارجية، خاصّة الإمبريالية الأميركيّة، ضائقة هذه الشرائح الواسعة، لتبتزها ولتكرس فقرها بهدف إضعاف إرادتها وتحييدها عن الصراع ضد الجريمة الصهيونية؟
إنّ القضية الفلسطينية هي قضية عربية. ولكن الورقة الأساسية هي في يد الشّعب الفلسطيني، باعتباره الضحية المباشرة للمشروع التطبيعي الأميركي الصهيوني العربي الرجعي. فهو قادر على أن يواظب على الرفض والصمود في وطنه. فما هو مطلوب؟
الخطوة الأولى تتمثل في إنهاء الانقسام وليس في إدارته وفي إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرّر وطني من استعمار كولونيالي استيطاني تستعيد فكرة فلسطين من البحر إلى النهر. وليس واضحًا ما إذا كانت الخطوة الهامة التي بدأتها حركتا "فتح" و"حماس"، بالإضافة إلى الفصائل الأخرى، تنحو في هذا الاتجاه، وهناك ملاحظات وتخوّفات وتساؤلات كثيرة وجدية حول جدية طرفي الانقسام.
ولكن بينما يمكن تشجيع هذا الحراك والتنسيق وتجنّب الوقوع في العدمية، يجب أن تواصل كل القوى والمبادرات والأطر الناقدة للحالة الفلسطينية الرسمية نشاطَها ودورَها، لتكون قوة مؤثرة في صياغة رأي عام فلسطيني نحو مسار تحرري شامل، وقد حان الوقت للتشبيك في ما بينها، لتحويل هذا الفضاء الثالث إلى تيارٍ ثالث.
الخطوة الثانية هي إعادة بناء العلاقة مع جماهير الوطن العربي التي عبّرت عن رفضها التطبيع، وإظهار الإخلاص لقضاياها وهمومها اليومية. وهذا يعني تجنب الدخول في محاور واستفزاز الشعوب. وهذا لا يعيق ممارسة السياسة في الساحة العربية والإقليمية والدولية حيث يمكن، وليس بأي ثمن.
الخطوة الثالثة هي القطع مع مرحلة أوسلو نهائيا، خاصّة التنسيق الأمني الذي هو أقبح وأخطر أنواع التطبيع وأكثرها انحطاطًا، والذي تتذرع به أنظمة عربية عديدة، في تقربها وتنسيقها وتحالفها مع المستعمر الصهيوني. وكذلك سحب الاعتراف بنظام الأبرتهايد الاستعماري.
خطوات أخرى هامّة كثيرة مطلوبة من أجل إعادة رسم الطريق إلى فلسطين وإلى قلب المواطن في الوطن العربي، والتي يُذكّر بها كل يوم الكثير من الداعين إلى القطع مع مرحلة الهوان.
المصدر: عرب 48