تشهد الساحتان الفلسطينية والعربية عموما تصريحات متكررة مفادها أن السلام في المنطقة يتحقق عندما تقوم دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف على حدود الرابع من حزيران، أي التخوم التي كانت قائمة قبل هزيمة عام 1967 واحتلال الصهاينة لمناطق عربية واسعة من ضمنها ما قد تبقى من أرض فلسطين الانتدابية وهي الضفة الغربية وقطاع غزة. هذه التصريحات تحولت إلى شعار يردده سياسيون وإعلاميون وحكومات. لكنه لا يلقى تجاوبا لا من الكيان الصهيوني ولا من الولايات المتحدة راعية الإرهاب الصهيوني.
هذا شعار لا يقيم سلاما، ويبدو أن الذين يرددونه لا يدرسون القضية الفلسطينية بشكل جيد، ولا يدققون بمقومات إقامة سلام حقيقي. تحدثت منظمة التحرير الفلسطينية منذ عشرات السنين عن إقامة سلطة فلسطينية على أي قطعة أرض يتم تحريرها، وعلى الرغم من أنها لم تلتزم بالتحرير، فإنها تراجعت بصورة أكيدة عن هدفها التأسيسي الأول وهو تحرير فلسطين. أما الحديث الآن عن إقامة دولة فلسطينية فقد تولد في الغالب بعد اتفاق أوسلو الذي لم ينص على إقامة دولة فلسطينية، وأخذ مكانة جدية بعدما طرحت الولايات المتحدة فكرة حل الدولتين.
تمسكت منظمة التحرير بالفكرة الأمريكية وأخذت تروج بكثافة لإقامة دولة فلسطينية، وقالت للشعب الفلسطيني إن إقامة الدولة ثابت فلسطيني لا يمكن التخلي عنه. ولا يغيب عنا أن أي دولة فلسطينية تقوم تبعا لاتفاق أوسلو ستكون وفق معايير الاحتلال الصهيوني، أي لن تكون سوى وكيل للاحتلال فاقدة تماما لأي نوع من الاستقلال أو السيادة، وستكون قطعا منزوعة السلاح.
الولايات المتحدة لم تكن جادة في طرحها لحل الدولتين، ومنظمة التحرير اخترعت إقامة الدولة كثابت لم يكن قبل ذلك ثابتا. طرحت أمريكا فكرة حل الدولتين للالتفاف على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم في الأرض المحتلة عام 1948. أمريكا تعي جيدا أن قضية اللاجئين لا يمكن الوقوف ضدها على الساحة الدولية، وهناك قرار دولي يؤيدها، وهي لا تريد عودة اللاجئين إلى ديارهم، وتريد فلسطين أرضا خالصة للصهاينة دون غيرهم. وجدت في حل الدولتين ما قد يقنع الفلسطينيين والعالم بنواياها "السلمية"، ووظفت وسائل إعلام أمريكية وعالمية للترويج للفكرة على الرغم من أنها لم تكن لديها نية للعمل على إقامة دولة فلسطينية.
أما منظمة التحرير فقد جعلت من إقامة الدولة إلى جانب كيان الاحتلال ثابتا لكي تضلل الشعب الفلسطيني. قادة المنظمة كانوا على قناعة بأن حق العودة لن يتحقق، فجعلت من الدولة بديلا للعودة، وحولت الدولة إلى ثابت فلسطيني لتضليل الناس. والمنظمة تركز على إقامة دولة بدون الناس على الرغم من أن الناس أهم ركن من أركان إقامة الدولة. أولا نأتي بالناس ثم نقيم دولة.
هناك ثابتان فلسطينيان فقط وهما حق العودة وحق تقرير المصير ولا ثالث لهما. أما فكرة الدولة فمشمولة في حق تقرير المصير. عندما يحصل الفلسطينيون على حق تقرير المصير أو ينتزعونه فإنهم سيقيمون دولة بالطريقة التي يرونها مناسبة. أما الدولة المطروحة حاليا ومن خلال الاتفاقات مع الصهاينة فلن تكون إلا دولة وفق المواصفات الصهيونية، أي ستكون وكيلا للاحتلال. وفي معيار المشيخة، الأفضل أن يحكمك السيد وليس وكيله.
السلام لن يتحقق بإقامة دولة فلسطينية وفق معايير أوسلو. الشعب الفلسطيني لن يتحرر وفق هذه المعايير واللاجئون لن يعودوا. وما دامت الحرية غائبة واللاجئون يعانون فإن السلام لن يتحقق أبدا. ولهذا أرى أن العالم يهرب من الحقيقة ولا يعمل على إيجاد حل عادل للفلسطينيين. العالم يتحدث عن حل عادل، لكن العدالة بالنسبة للفلسطينيين لن تتحقق بدون استعادة وطنهم، أو على الأقل العودة إلى وطنهم، إلى بيوتهم وممتلكاتهم.
سيقبل فلسطينيون بحلول تهدر الحقوق الفلسطينية كما فعلوا في أوسلو، لكن هؤلاء ليسوا الشعب الفلسطيني، الشعب أكبر منهم، وما دام من بين الشعب من يصر على استعادة الحقوق فإن الحق لا بد في النهاية أن يسترد. أما من يظن أن إقامة الدولة تعني صمت اللاجئين عن حقوقهم فهو غارق في الأوهام. حل مشكلة ملايين النفوس أهم من إقامة الدولة، والقضية الفلسطينية ستبقى حية ما دام هناك فلسطيني واحد يريد أن يعود ولا يستطيع.