كتب الكثير حول الظهور "الذي تم ترتيبه" للسفير السعودي السابق في الولايات المتحدة بندر بن سلطان، وبات معروفا للجميع أن الرسالة الأهم من هذا الظهور هي الجملة الأخيرة التي قالها ابن سلطان في نهاية حلقاته الثلاثة، وهي أن السعودية لها مصالحها ومخاوفها الخاصة وأنها لن تضع مصالح أحد كأولوية على مصالحها.
هل مصلحة السعودية بالتطبيع؟
بالطبع لا يخفى على أي متابع أن المقصود بالمصالح التي تحدث عنها ابن سلطان هو التطبيع مع الاحتلال، بهدف ضمان استمرار الرعاية الأمريكية للمملكة، وحمايتها من إيران، بعد سنوات من الخطاب الرسمي أو الموجه رسميا باعتبار أن إيران هي الخطر الأكبر في المنطقة. ولكن هل سيحمي التطبيع السعودية فعلا من التهديد الإيراني؟
لا شك ابتداء أن من حق كل دولة البحث عن مصالحها، وحماية أمنها القومي، ولكن المشكلة في أن السعي لحماية أمن السعودية كما روج له بصورة غير مباشرة بندر بن سلطان عبر التطبيع هو سعي محكوم بالفشل، إذ إن دخول العامل الإسرائيلي في المعادلة سيكبد السعودية عدة خسائر:
الأولى، أنها ستثبت رواية إيران بأنها الدولة الوحيدة بالمنطقة التي تدعم القضية الفلسطينية، وهي قضية لا تزال مركزية في ضمير ووعي الشعب العربي عموما وفي قلبه الشعب السعودي، برغم كل الضخ الإعلامي الرسمي الذي يسعى لكي هذا الوعي.
والثانية، أن دخول الاحتلال إلى منطقة الخليج عبر التطبيع سيؤجج الحرب الاستخبارية والأمنية بين الاحتلال وإيران في هذه المنطقة، ما سيؤثر على أمن دول الخليج، وتحديدا السعودية والإمارات والبحرين.
والثالثة، أن دولة الاحتلال ستضع الدول الخليجية المطبعة معها في مواجهة إيران، وإذا حصلت هذه المواجهة لا سمح الله، فإن الاحتلال لن يدخل حربا مباشرة مع الإيرانيين، بل سيجعلها حربا بالوكالة.
إن كل من يتابع النقاش السياسي داخل دولة الاحتلال يدرك تماما أن الأطراف "الإسرائيلية" جميعها غير معنية بحرب مباشرة مع إيران.
وينطبق الأمر ذاته على الولايات المتحدة التي باتت تعتبر إيران أقل خطرا على مصالحها في ظل تراجع أهمية النفط الخليجي، وضمان تفوق الاحتلال عسكريا.
لن تدخل أمريكا حربا مع إيران في المدى القريب والمتوسط سواء كان الرئيس الأمريكي جمهوريا أو ديمقراطيا، ولكن واشنطن ستبني سياستها فقط على ضمان منع إيران من امتلاك أسلحة نووية.
لن يحمي الاحتلال ولا أمريكا السعودية من الخطر الإيراني، ولن تتحقق مصالح الدول الخليجية إلا ببناء مشروع نهضوي عربي مناهض للاحتلال الإسرائيلي وإقامة تحالفات واسعة مع مصر وتركيا، لدفع إيران لإجراء مصالحات تاريخية في المنطقة تشمل لبنان واليمن وسوريا.
تسطيح الخطاب السياسي
بنيت الحلقات الثلاثة لبندر بن سلطان على سرد تفاصيل تظهر القيادات الفلسطينية بأسوأ صورة، للقول بأن مثل هذه القيادات لا تستحق الدعم.
لا مشكلة بالطبع بنقد حاد للقيادات الفلسطينية في كل الفصائل والاتجاهات، بل إن الفلسطينيين عموما لا يختصرون وطنهم وقضيتهم بهذه القيادات ويمارسون النقد الحاد يوميا لممارساتها، ولكن المشكلة في تسطيح الخطاب السياسي وهبوط مستواه لدرك غير مسبوق، بالتلميح لصفات إنسانية مثل "تبويس عرفات"، أو التعريض بالخلافات الفلسطينية الداخلية والصراعات التي شهدتها حركة التحرر الوطني الفلسطيني عبر تاريخها.
ينتقد الفلسطينيون أنفسهم هذه الخلافات والصراعات، ولكنهم يمارسون هذا النقد بلغة سياسية، وليس بمماحكة لا تليق بالسياسيين والدبلوماسيين، وهم يعلمون أيضا أن هذه الصراعات -وإن كانت مرفوضة- إلا أنها جزء من طبيعة العمل السياسي في حركات التحرر بل وفي الدول، وكان يفترض بدبلوماسي كبير مثل ابن سلطان أن يدرك ذلك، ولكنه الهوى، ولعله كان يجب أن يذكر الصراعات الدموية والحروب التي كانت وسيلة لإنشاء الدولة السعودية نفسها، وكان أيضا يجب أن يمتنع عن مثل تلك الأوصاف التي ساقها لهذه الصراعات، خصوصا أن السنوات الثلاثة الأخيرة شهدت صراعات واعتقالات وتخوينا واتهامات بالفساد داخل عائلة الحكم في السعودية نفسها!
الفلسطينيون بحاجة لنقد سياسي لمسارهم التاريخي والنضالي، ولكنهم لا يحتاجون دروسا عن طريقة إدارة صراعاتهم، ولا عن طريقة التعامل مع "الفرص الضائعة"، خصوصا إذا كانت هذه الدروس بلغة غير سياسية!
ما لم يقله بندر بن سلطان
قال الأمير بندر بن سلطان الكثير عن "تفويت" القيادات الفلسطينية للفرص السياسية للحل، وأراد من القصص التي سردها (والتي تحتاج لرد من القيادات الفلسطينية) ليصل إلى نتيجة هي أن الفلسطينيين هم من منعوا الوصول إلى حل سياسي للصراع مع الاحتلال، وإذا صحت هذه الروايات فهي شهادة بحق ياسر عرفات، الذي نختلف معه كثيرا، ولكننا نتفق مع رفضه للتوقيع على اتفاق غير عادل في كامب ديفيد الثانية.
ولكن الأهم مما قاله بندر بن سلطان في هذا الإطار هو ما سكت عنه، وهو أن المبادرة السعودية التي طرحها ولي العهد السعودي آنذاك عبد الله بن عبد العزيز باقتراح من توماس فريدمان، ثم أصبحت مبادرة عربية بعد ذلك، أفشلت من قبل الاحتلال وليس من الفلسطينيين.
وافقت السلطة الفلسطينية على مبادرة السعودية دون تحفظات، مع أنها لا تحقق الحقوق الفلسطينية المشروعة، ولكنها رفضت وتم التعامل معها بدونية من قبل الاحتلال، وهي حقيقة لم يقلها بندر بن سلطان.
لم يكن مستغربا أن يسكت ابن سلطان عن هذه الحقيقة، فالهدف الرئيسي من خروجه الإعلامي ليس إدانة الاحتلال، بل تحميل الضحية/ الفلسطيني مسؤولية عدم تنازله عن حقوقه!