شهد التاريخ الفلسطيني العديد من المنعطفات والتحديات، ومعظمها نتاج المخططات والسياسات الاستعمارية في المنطقة. لكن أبرز انتكاسة للقضية الفلسطينية، والتي كان سببها الفلسطينيون أنفسهم، هي الانقسام، الذي نتج بشكل مركزي بسبب الاختلاف في البرنامج السياسي بين حركتي حماس وفتح، وخاصة بعد اتفاق أوسلو. تفاقم هذا الاختلاف أكثر في مرحلة ما بعد الانتخابات التشريعية عام 2006، ونتج عنه انقسامٌ لم تُنهِهِ العديد من اللقاءات والاتفاقيات بين الفصيلين. والتقارب الأخير بين حركتي حماس وفتح، يُثير سؤالا هاما، وهو: هل يمكن العمل المشترك في المرحلة القادمة دون الاتفاق على برنامج سياسي؟ ودون حل الإشكاليات المتشعبة الناتجة عن الانقسام؟ وربما هذا السؤال هو الأكثر تداولا في المجتمع الفلسطيني، وحتى عند قواعد الفصائل، ومنها قواعد حركتي حماس وفتح.
تفرض المرحلة الحالية، وهي مرحلة تاريخية تمر بها القضية الفلسطينية، شروطها على الكل الفلسطيني، حيث لا يمكن التعامل مع هذه المرحلة وشروطها المتعددة، دون أخذ الحقائق التالية بعين الاعتبار. أبرز هذه الحقائق هو عدم قابلية برنامج الحركتين للتنفيذ، أو على الأقل عدم قدرة الحركتين على تنفيذ برامجهما في الوضع الراهن. وكذلك البيئة الإقليمية التي لا تساند صفقة القرن فحسب، وإنما رفعت دعمها لمبادرة السلام العربية، التي تدعو إلى تطبيع الدول العربية جميعها مع "إسرائيل"، مقابل إقامة الدولة الفلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967. والحقيقة الثالثة هي خطورة التغول الإقليمي على المؤسسات الفلسطينية، وفرض أشخاص موالين لدول الإقليم وبرامجها.
تعمل هذه الحقائق الثلاثة ضد حركتي حماس وفتح بنفس الدرجة، وربما سيشكل اختلال أحد هذه الحقائق نقطة مناورة لتراجع أحد الطرفين عن التقارب، كفوز المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأمريكية جون بايدين، وخاصة إذا أوقف الضم، وأعاد الإقرار بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967.
وعودة إلى السؤال الرئيس: هل يمكن التقارب بين فتح وحماس دون برنامج سياسي؟ ربما أجابت الحركتان على ذلك، من حيث اعتبار أن برنامجهما هو برنامج التصدي لصفقة القرن. وببساطة، قد يكون هذا البرنامج هو عنوان المرحلة المقبلة، وقد يمتد لسنوات. وبالنسبة للحركتين، فإن مناهضة العوامل السابقة، هو متطلب لاستمرار النضال المشترك لإقامة الدولة الفلسطينية كحد أقصى، أو العودة لقواعد الاشتباك البرامجي بين الحركتين في الحد الأدنى. فمشروع صفقة القرن، هو مشروع متغول على أية مشاريع سياسية، ويجعل البرامج السياسية الأخرى غير قابلة للتطبيق، وهي على النقيض منها تماما. والآلية التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تنفيذ صفقة القرن، متسارعة، ولا تقيم للفلسطينيين أي اعتبار، وتسعى لتحويل الإقليم لبيئة معادية للفلسطينيين، وللحركتين على حد سواء. وهذا معناه أن المرحلة المقبلة التي سيواجهها الفلسطينينون، هي صفقة متغولة، وإقليم أقرب ما يوصَف بأنه معادٍ. وهذا معناه أن الفلسطينيين لم يبقَ لهم سوى الاعتماد على الذات، وترتيب صفوفهم.
المتاح أمام الفلسطينيين تجاه الحقائق الثلاثة، هو التحرك نحو حماية المؤسسات الفلسطينية، وهي الفرصة المتاحة لحركة فتح بالذات. ففتح أمام خيارين: إما ترتيب المؤسسات الفلسطينية بالتوافق مع حماس، مع بقاء السيطرة لها، أو انهيار المؤسسات الفلسطينية، وإعادة ترتيبها إقليميا، بالاعتماد على شخصيات توافق على تمرير صفقة القرن. كما أن حركة فتح أمام استحقاق الجواب على السؤال الكبير والتاريخي: ماذا بعد فشل أوسلو؟ وما هي الخيارات المتاحة؟ إن عدم الإجابة على هذا السؤال، سيضعها أمام تحمل مسؤولية تاريخية لمراهنتها على المفاوضات كطريق واحد ووحيد لإقامة الدولة الفلسطينية. كما أن ترتيب البيت الفلسطيني ربما يخفف عنها تحمل أعباء المرحلة القادمة وحدها، وسيوزع الحمل على الجميع. وبالنسبة لحركة حماس، فإن ترتيب البيت الفلسطيني سيخفف عنها أعباء قطاع غزة، دون اشتراط تسليم سلاحها.
لم يشمل التقارب بين الحركتين فرْض تصور أحدهما على الآخر، فلا فتح طلبت سحب سلاح غزة، وهو طلب صعب في ظل انتهاء مشروع أوسلو ومسار حل الدولتين، ولا حماس تستطيع فرض الكفاح المسلح على السلطة؛ لعلمها بتبعات هذا الخيار إن لم يتحملها الجميع.
مثلت اللحظة التاريخية الراهنة فرصة لاختبار كل حركة منهما للحركة الأخرى. فرغم انتقادات حماس لفتح طيلة السنوات الماضية بسبب التنسيق الأمني، والتنازلات التي تضمنها اتفاق أوسلو، فقد ثبت لحماس أن حركة فتح لم تتساوق مع صفقة القرن، ولم تقبل بتمريرها، ووقفت بحدة أمام حملة التطبيع، وهذا أمر هام على المستوى الوطني. وفي المقابل، ورغم اتهامات فتح لحماس بالانقلاب، والسعي لإقامة "إمارة" خاصة بها، فقد ثبت لفتح أن حركة حماس لم تستغل الحدث لتقديم نفسها بديلا عن حركة فتح أمام المجتمع الدولي، ورفضت دعوات اللقاء بالمسؤولين الأمريكيين من أجل الحوار حول دور لحماس، يتجاوز حركة فتح، في المرحلة المقبلة.
وأخيرا، فإن الملمح المركزي للتقارب هو تجنب التفاصيل، وهذا ليس بسبب إدراك الفصيلين بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكن لأنه ليس لأحد منهما أي مجال أو قدرة على أن يفرض شروطه على الآخر، بحكم أن المركب يغرق بالجميع، وأن مهمة الجميع الآن هي إنقاذ المركب. وعلى ذلك، فإن مقدار التقارب والاتفاق، مرتبط بمقدار ما يحتاجه الفلسطينيون بأن لا يغرقوا، وأن الفرصة الآن متاحة لإعادة تشكيل العلاقة مع الاحتلال. وبعبارة بسيطة، إن الشعب الفلسطيني محتل، وعليه الانفكاك من الاحتلال، فما العمل إن لم يكن التقارب؟