يعمل فريق بحثي فلسطيني بمساعدة باحثين دوليين، ضمن مشروع ينفذه مركز مسارات بالشراكة مع مبادرة إدارة الأزمات الفنلندية، وبدعم أوروبي؛ على إنتاج بحث يتناول السيناريوهات المحتملة فيما يتعلق بالصمود الفلسطيني، والسياسات المفترض الأخذ بها في ضوء ذلك، بهدف العمل قدر الإمكان على درء السيناريوهات السيئة، ودفع السيناريوهات الجيدة والمفضلة إلى الأمام.
وتوصل الفريق البحثي إلى إنتاج ورقتين: الأولى حول السيناريوهات من إعداد د. عبد الرحمن التميمي، والأخرى حول السياسات من إعداد د. رائد نعيرات.
واعتمد البحث على منهجية تشاركية، ومقاربة تحليلية لعناصر الصمود الفلسطيني وعلاقتها مع بعضها البعض، تأثيرًا وتأثرًا. وقد طُبّقت المنهجية من خلال مراجعة الأدبيات، وإعداد تقارير وأوراق بحثية وأوراق سياسات قطاعية، واستطلاع آراء، ولقاءات وورش عمل، إضافة إلى استخدام تحليل النماذج الإحصائية، ومناهج الدراسات المستقبلية الرئيسية، مثل: مصفوفة التأثير المتبادل، ودولاب المستقبل، وتقنية بناء السيناريوهات، وتقنية دلفي، وتقنية (5Ts) لتحليل المؤثرات وتأثيرها.
وتوصل البحث إلى ثلاثة سيناريوهات رئيسية وأخرى فرعية: الأول، سيناريو استمرار الانقسام ومجتمع هش، وهو سيناريو الأمر الواقع الأكثر احتمالًا. والثاني، سيناريو الفوضى والانهيار، وهو سيحدث فيما لو استمرت المعطيات والمؤشرات الحالية، وتفاقمت، ووقعت معطيات سلبية جديدة. والثالث، سيناريو الصمود والوحدة، وهو رغم احتماليته الضعيفة إلا أن هناك مؤشرات وعوامل تدفع به. وفي حال توفر الوعي والإرادة لإحداث تغيير وتجديد وإصلاح في النظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوناته، سواء من داخله، أو بالضغط عليه من خارجه، وأساسًا من الشعب الفلسطيني بمختلف أفراده وقواه، الذي سئم من الوضع الراهن ويتوق لتغييره، فسيتقدم هذا السيناريو على السيناريوهين الآخرين.
ما يجري من محاولات لإنهاء الانقسام عبر اجتماعات الأمناء العامين والحوارات الثنائية بين حركتي فتح وحماس، وبينهما والفصائل الأخرى، سيكون لها، ولنتائجها تحديدًا، أثر كبير في تحقق أي من السيناريوهات.
فإذا نجحت الجهود في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، والاتفاق على رؤية شاملة وإستراتيجية جديدة وشراكة حقيقية، يتم على أساسها إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتغيير السلطة لتصبح أداة في خدمة البرنامج الوطني المشترك، والاحتكام إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع، فسيتقدم سيناريو الصمود والوحدة، وسيتراجع السيناريوهين الآخرين. وأما إذا فشلت فسيحصل العكس، وسنندم حين لا ينفع الندم. وأما إذا لم تنجح المبادرة الوحدوية تمامًا، ولم تفشل تمامًا، فسنبقى نراوح في نفس المكان الذي نقف فيه، في ظل عملية إدارة الانقسام التي تهدد إذا استمرت بضياع كل شيء.
ويمكن أن يحدث سيناريو الوحدة، إذا حصل حدث قليل الاحتمال كبير الأثر يؤدي إلى إنهاء الانقسام، وهذا الأمر وارد في منهجية الاحتمالات والسيناريوهات، ويسمى "سيناريو المعجزة". ويمكن أن يحدث سيناريو "اللعنة"، الذي هو أيضًا قليل الاحتمال كبير الأثر. وأكبر مثال على هذه السيناريوهات الإيجابية أو السلبية جائحة كورونا، فهي حدث صغير لم يكن متوقعًا، ولكنه أحدث أثرًا كبيرًا لا أحد يستطيع الإحاطة بنتائجه حتى الآن كونه لا يزال مستمرًا.
وعند التعامل مع السيناريوهات، لا يجب النظر إليها باعتبارها قدرًا لا راد له، أو حقيقة مطلقة، بل مجرد عمل إنساني بحثي نسبي يحتمل الصواب والخطأ، ويستند إلى مناهج البحث العلمي والمعطيات والمؤشرات، وإلى الخبرة والقدرة على التخيّل، ويخضع لعوامل ومتغيرات كثيرة ومتحركة، لذا لا معنى لما نسمعه عن توقعات من خبراء بأن حدثًا ما سيحدث أو لا يحدث بنسبة 100%، مثل أن حربًا عسكرية ستحدث بين أميركا والصين بنسبة 100%، وفي وقت محدد بالضبط، أو حتمية ظهور نظام متعدد الأقطاب، أو استمرار النظام أحادي القطبية، أو حتمية عودة السلطة إلى المفاوضات أو عدم عودتها، أو حل السلطة، أو انتهاء حل الدوليتن بنسبة 100%، أو موت صفقة ترامب أو حتمية نجاحها، فهي مجرد احتمالات بعضها له فرصة أكبر في الحدوث، وتخضع لمؤشرات وعوامل ومتغيرات تقدم بعضها وتؤخر بعضها.
نقطة أخرى يجب الانتباه إليها، وهي أن هناك مؤشرات وعوامل تدفع باتجاه هذا السيناريو أو ذاك، وتميزها عن بعضها، وهناك تداخل في نفس الوقت فيما بينها، إذ لا يفصل بينها سور صيني، فقد يتداخل سيناريو استمرار الوضع الراهن مع سيناريو الفوضى التدهور، أو سيناريو التقدم نحو الوحدة والصمود في نفس الوقت، مع ضرورة تحديد أي السيناريو أكثر احتمالًا ، والسيناريو المستبعد، ولماذا؟
كما تظهر سيناريوهات فرعية كثيرة لا حصر لها. فمثلًا في الحالة الفلسطينية يمكن أن تحدث سيناريوهات فرعية، مثل شغور منصب الرئيس محمود عباس بسبب المرض أو الاستقالة أو الوفاة، وهذا متغير سيحدث تغييرًا كبيرًا، وسيعزز سير الأمور نحو الفوضى والانهيار إذا حدث قبل ترتيب البيت الفلسطيني، والاتفاق على آلية انتقال السلطة.
وفي المقابل، فإن سيناريو غياب الرئيس المتوقع نظرًا لكبر سنه، وما يعانيه من أمراض، محتمل أيضًا ألا يحدث ويستمر الرئيس في منصبه لمدة أخرى قد تصل إلى سنوات، خصوصًا أنه من عائلة معمرة، وهذا يعزز من سيناريو استمرار الأمر الواقع. وفي هذه الحالة يمكن أن نشهد إجراء انتخابات توافقية يكون الرئيس محمود عباس مرشحًا بالتزكية، أو انتخابات تنافسية، أو لا نشهد انتخابات على الإطلاق.
كما يبقى سيناريو اندلاع انتفاضة فلسطينية واردًا مهما كانت احتماليته ضعيفة الآن، أو حصول تغيير جوهري في الوضع العربي أو الدولي أو الإسرائيلي، سلبًا أو إيجابًا، سيؤثر بشدة على القضية الفلسطينية أكثر من غيرها من القضايا، بحكم أهميتها، وتفاعلها مع عوامل وقضايا متعددة. وهذه التغييرات تبقى محتملة، ويجب الاستعداد لها كلها، وليس لأحدها فقط، أو الاستمرار في الاحتكام إلى إستراتيجية رد الفعل، وإنما إلى إستراتجية مبادِرة فعّالة تستشرف المستقبل وتستعد له. فنحن في عالم قديم ينهار وعالم جديد لم تتضح معالمه بعد، ليحل محل القديم، ويجب أن نستعد لاستقباله، لكي نأخذ مكانًا لائقًا بفلسطين في خارطة العالم الجديد.
الخلاصة مما سبق: ضرورة الجمع بين رؤية وتحديد السيناريوهات بشكل علمي، وإعمال التفكير الإستراتيجي للعمل على تحقيق السيناريو المفضل والمستهدف، وفقًا لمنهجية الدراسات الإستراتيجية، بغض النظر عن كون السيناريوهات مرغوبة أو مكروهة، مع ضرورة الاستعداد لحصول السيناريو الأسوأ، وعمل كل ما يلزم وممكن من أجل تقدم السيناريو المفضل.