غزة- يحيى موسى: تجلس أمام الحاسوب، كعادتها منذ ست سنوات على اختفاء آثار شقيقها محمد جمال الرنتيسي (أحد مفقودي سفينة الإسكندرية)، تبحث عن أي دليل يثبت "المؤكد" لديهم بين تقارير المؤسسات الحقوقية الدولية تبرد به قلب أمها؛ وتتلمس به بصيص أمل حي، لتزيح عن كاهلها هواجس كثيرة، قبل أن تفتح عينيها بكامل اتساعهما على صورة ظهرت في إحدى التقارير. عشرات الشباب نائمون على الأرض ومكدسون بصالة ضيقة تدعى مركز "الأنفوشي" بمصر، مررت بنظرها على عدة وجوه، حتى توقفت عند شاب يرتدي قميصا أسود وبنطال جينز، "نعم هو محمد.. أخي!" تراقصت الكلمات فرحا داخل فمها، حبست صوتها قبل أن يتعالى، فالوقت متأخرًا، لم تشأ إيقاظ والديها، المتشوقين لمثل هكذا خبر يبحثان عنه منذ ست سنوات، وانطلقت دموعها على خدها تمزج "الفرح والحزن".

 فاقت شقيقته قبل الشمس؛ عرضت الصورة على والدتها، تحمل لها البشرى: "شايفة يما هي صورة محمد.. بدي أورجيك إياها نتأكد أكتر"، نظرت الأم نظرة عامة للصورة حتى أشارت بإصبعها على الشاب النائم بهدوء: "هدا محمد ابني"، ودوى الفرح الغرفة ومعه دموع الغياب، لعل ابنها يعود وتراه يقف أمامهما، وتنتهي "خرافة حادثة الغرق" التي لا تؤمن بها عائلات المفقودين.

"من لما صارت القصة وإحنا بأمل كبير أنه أخويا موجود حي يرزق، ولا مرة دخل الشك قلوبنا إنه مات، وهذا شعور الأم وشعورنا".. تستهل شقيقته التي فضلت عدم ذكر اسمها كاملا حديثها لشبكة "قدس" الإخبارية بعفوية، وبصوت يتسابق الفرح بين ثناياه، تكمل: "لما رأينا الصورة، العائلة أجمعت أنه محمد، فهو نائم نومة مميزة معروفة عنه لدينا، شكل الوجه واضح، ملامحه، الذقن، شكل الأذن، كانت علامات تؤكد مليون بالمائة أنه محمد (..) وزادت قناعتنا بأن الصورة المنشورة على موقع حقوقي لمنظمة (Global Detention Project) تعود له".

السادس من سبتمبر/ أيلول 2014 م، كان من المقرر سفر أكثر من 450 مهاجرا من جنسيات عربية متعددة بينهم فلسطينيون وسوريون وسودانيون ومصريون، على متن قارب مصري من مدينة الإسكندرية إلى أوروبا، الساعة الثانية فجرا، إلا أن عائلاتهم فقدت الاتصال بهم، واختفوا ولا معلومات رسمية عنهم حتى اللحظة.

بالنسبة لعائلته: "محمد فاكهة البيت، له مكانته، ترك في غيابه فراغا كبيرا، مر شهر رمضان ست مرات بدونه، والأعياد، كل سنة نحيي يوم ميلاده بحضور أصدقائه ونقيم له حفلا، الكثير من الأشياء تغيرت في غيابه، تزوجت أختاه. أخي الصغير الذي كان بالمرحلة الابتدائية قبل ست سنوات، أنهى الثانوية العامة، لكنه حاضر معنا في كل تفاصيل حياتنا" تقول شقيقته.

انقطاع الاتصال

"انقطع الاتصال مع محمد منذ اختفاء القارب في السادس من سبتمبر/ أيلول" كما تروي شقيقته التي تقول: "حينها كان على شاطئ الإسكندرية، وكانت مكالمته مع والدي، فيها مشاعر كثيرة.. أوصاه والدي على دينه وصلاته، أما بالنسبة لأمي فكانت مراسم الوداع عبر الهاتف صعبة، لكنها استودعته، وخلال هذه السنوات تعرض أبي لست (جلطات دماغية) لتفكيره المستمر بأخي".

ومنذ تلك المكالمة، لم يرد العائلة أي خبر رسمي بخصوص محمد، سوى الصورة التي ظهر فيها وكانت غلاف تقرير منظمة (Global Detention Project)، أما عن وجود دلائل أخرى، فتضيف: "تواصلنا مع بعض الأشخاص بمصر وأكدوا وجوده في إحدى السجون المصرية".

بعد تلك الصورة التي ظهرت وسُربت، بدأت العائلات تتعرف على وجوه أبنائها، وأحيي الأمل بداخلهم مرة أخرى، بعدما أرهقهم تعب الانتظار، فقد وصل وسم (#أفرجوا_ عن_ سجناء_ سفينة 6-9) إلى تريند كأعلى وسم تفاعلي على موقع "تويتر" على مستوى فلسطين.

عام 2013 تخرج محمد بتخصص بكالوريوس إدارة تكنولوجية من الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية؛ وأسس مع أحد أصدقائه شركته الخاصة "سجايا للإعلام"، لكن هذا الحلم الذي لم يدم طويلا قصف واختفى بين الدمار الذي طال برج "الباشا" بمدينة غزة خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة عام 2014م، وأغلقت الفرصة بوجهه، فقرر البحث عن حلم جديد، في أوروبا هناك حيث يحلم الشباب "بحياة وردية" لكن هذه الحياة ذبلت قبل أن تبدأ، وفقدت آثاره.

استطاع أحد أفراد عائلة المفقود مجد إسماعيل عبد الحكيم إسماعيل السفر إلى مصر، وهناك وصلته دلائل قوية حول مصير نجلهم المفقود. يقول لشبكة "قدس" الإخبارية: "بعد وساطات وجهود، أرسلنا الاسم إلى لواء عسكري بالجيش المصري، وبعد ثلاثة عشر يوما، أخبرنا أن مجد معتقل بمركز "العزولي" بسجن الإسماعيلية وهو سجن عسكري تابع للجيش المصري، أما الصورة المسربة والتي ظهر بها عدد من المفقودين فكانت لحظة اعتقالهم واحتجازهم بمركز "الأنفوشي" للتوقيف قبل توزيعهم على عدد من السجون".

الدليل الثاني على احتجاز المفقودين،  كما يؤكد إسماعيل، هو تأكيد شابين أفرج عنهم من السجون المصرية الأول في شهر مايو/ أيار 2015م، والثاني في نوفمبر/ تشرين ثاني من نفس العام (نتحفظ على ذكر اسميهما)، أنهما شاهدا مجد في السجن نفسه قبل أن يتم الإفراج عنهما لاحقا (..). "أرسلنا رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي لمجد وكان يظهر لنا أن هناك شخصا شاهدها، وفي الصورة المسربة تعرفنا عليه من خلال ملابسه وحقيبته" وهذا دليل آخر على وجودهما أحياء.

شواهد ودلائل

محمد أبو هجرس من مدينة غزة، فقد هو الآخر التواصل مع ابنته رؤى وزوجها محمد عليان، وحفيدته يارا، الذين كانوا على متن السفينة التي شاع أنها تعرضت للغرق، وعلى إثر نشر صورة لحفيدته على مواقع التواصل الاجتماعي، وشكل أهالي المفقودين لجنة باسمها، وأصبح عضوا فيها.

بعد أيام من نشر الصورة راسله أحد الأشخاص عبر تطبيق "ماسنجر"، كما يروي أبو هجرس لشبكة "قدس" الإخبارية، كاشفا عن تفاصيل المحادثة: "عرف الشاب عن نفسه أنه لاجئ سوري ووالدته تحمل إقامة مصرية، وأنه ركب في الحافلة ذاتها مع ابنتي وزوجها، وقد شاهد طفلتها، وروى لي تفاصيل الحادث الذي تعرضوا له، وأنهم تجمعوا في مدينة دمياط، وتوزع  المهاجرون على عدة حافلات، وقال: إنه شاهد فتيين يقفان بجوار زوج ابنتي (اعتقد أنهما شقيقا ابنتي)، وأن زوج ابنتي ذهب واستبدل السترات المائية التي اشتراها لطفلته، وكان التجمع مع غروب الشمس في أحد المطاعم في منطقة "دمياط" وفي الليل انطلقت الحافلات إلى الإسكندرية".

ويضيف أبو هجرس نقلا عن الشاب: "وصلنا شاطئ الإسكندرية الواحدة فجرا، وهناك تعرضنا لإطلاق نار كثيف بالرصاص الحي، ولم أتمكن من رؤية شيء سوى أنني معتقل، وخضعت لتحقيقات، وأطلق سراحي بعد ذلك لأن والدتي تحمل إقامة رسمية مصرية".

في 14 سبتمبر/ أيلول، كان أبو هجرس على موعد مع شهادة أخرى: "اتصل بي شخص وعرف عن نفسه أنه ضابط مصري، وحدد اسم المستشفى الذي تتواجد فيه ابنتي، وقال بعدما شاهد صورة حفيدتي: "أبشركم أن ابنتكم حية"، وهي نقلت للعلاج كونها حاملا، وما أن طلبت منه أن أحدثها انقطع الهاتف، فاتصلت بأقارب لنا في القاهرة، ووصلوا المكان بعد ساعات، وسألوا عن الاسم، إلا أن المستشفى بكل طواقمها نفوا أن يكون أحد بهذا الاسم قد جاء، وتواردت إلينا شكوك أنهم ربما قد أدخلوا بطريقة غير رسمية".

رؤى التي درست الهندسة المدنية، صممت وزوجها مشروع "الخرسان المضيئة"، ورغم أنها من الأوائل على دفعتها، إلا أنها لم تحصل على فرصة عمل، فقررت السفر ترفع شعار "ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة"، باحثة عن حلمها.

آخر مرة تحدث فيها أبو هجرس مع ابنته، كانت في السادس من سبتمبر الساعة العاشرة ليلا، "أخبرتنا أنهم قريبون من الشاطئ، وبعدها انقطع الاتصال"، لكن ظلت هناك شواهد أخرى على وجودهما بحسب الوالد المكلوم على ابنته وعائلتها: "بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع من انقطاع الاتصال ظل حساب زوج ابنتي الشخصي على موقع فيسبوك يظهر بحالة متصل (أون لاين)، فتواصلنا معه وكان هناك من يقرأ ما نكتب، وبعد رجاء كبير لإبلاغنا بأي معلومة حول مصيرهم، أخبرنا برواية لم نقتنع بها، وهي أنه عثر على هاتفهم وأنهم ذهبوا  إلى إيطاليا".

تعتقد عائلات أهالي المفقودين أن أبناءهم موجودون بمركز "الأنفوشي" بمدينة الإسكندرية، وأن الصورة المسربة والتي وردت بتقرير حقوقي كانت منه، مشيرة إلى أن المسؤولين الفلسطينيين أرسلوا وفدا لعدد من الدول للبحث عن أسماء المفقودين، ولكنهم لم يتواجدوا في أي من الدول الأوروبية.

شواهد أخرى تعزز آمال أبو هجرس والعائلات الأخرى، كما يقول: "أحد المفقودين ويدعى ياسر أبو عابد، اتصل بوالدته المتواجدة في مصر على الخط الهاتفي الأرضي، وحاول طمأنتها إلا أن الخط الهاتفي الذي رد عليه شقيقه انقطع قبل أن ترد والدته".

"نحن نعتقد أن هناك شخصا وراء هذا الاختفاء، يريد أن يظهر بمظهر البطولة في يوم ما، ربما لدواعٍ انتخابية أو أمر آخر لا نعرف، لكن الشيء الوحيد الذي تأكدنا منه أنهم أحياء يرزقون وهناك شواهد كثيرة، فلا يعقل أن يختفي هذا العدد – لو أردنا الاقتناع برواية الغرق – دون أن يظهر أي أثر، ملابس، أو جثث، فالبحر لا يبتلع أحدا، وهناك تساؤلات مهمة في سياق هذه القضية: أين ذهب القارب الحديدي من طابقين والمخصص للسفر؟ والقبطان والمهربون؟".