ما ظهر من حوارات حماس وفتح في إسطنبول، هو اتفاقهما على البدء بانتخابات تشريعية للسلطة الفلسطينية، حلاّ للأزمة الذاتية الفلسطينية، وبناء لقاعدة وطنية يمكن التأسيس عليها لمواجهة التحدّيات التي تهدّد القضية الفلسطينية بالتصفية، وهو الأمر الذي يطرح الأسئلة عما إذا كان هذا التفاهم قادرا على صياغة تراصّ وطنيّ يحمي فيه الفلسطينيون ظهورهم بعد انكشافها عربيّا، ويستندون إليه في اعتمادهم على أنفسهم بعد انكشاف مسار التسوية الذي اختطته قيادة منظمة التحرير، على رزمة خيبات متكاثرة، أهمها سقوط الرهان على خيار التسوية نفسه.
بالرغم من أن اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم، بما يستوجب وحدة وطنية، هو الرهان الوحيد المضمون في حال حصوله، فقد كان ينبغي على الأقل إنجاز تفاهم وطنيّ يعيد النظر في المرحلة السابقة ويؤسّس للخروج من مسار التسوية منذ ثلاث سنوات، أي منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، إلا أنّ هذا التأخير دالّ على تمسك قيادة منظمة التحرير بمسارها، وهو الأمر الذي يتأكد لا بخطاباتها وبالتأخر في الدفع نحو مقاومة شعبية مؤثّرة فحسب، بل أيضا بالاتفاق على البدء بالانتخابات التشريعية، التي كانت نسختها الماضية السبب المركزي والمباشر في الانقسام الفلسطيني، والتي يقال إنّ الأوروبيين يضغطون لإنجازها الآن، وهو مؤشر آخر على أنّها، إن جرت، فعلى أرضية التسوية.
بداهة فإنّ النقد لا يطال الحوارات، ولا مبدأ الاتفاق، فهو أمر محلّ تثمين وتقدير وإيمان بضرورته. والحوار بدلا من تصعيد الخصومة الداخلية هو أدنى ما يمكن فعله، وإنما يتجه النقد إلى النتائج والمقرارات والاتجاه العامّ الذي تشير إليه الحوارات، وهو الاتجاه الذي يتضح بالاتفاق على الانطلاق من انتخابات تشريعية، لا من انتخابات المجلس الوطني لمنظمة التحرير، أو الاتفاق على إعادة بنائها أولا، وفق الاتفاقيات السابقة الموقعة، أو وفق أيّ تفاهم جديد، في خطوة أولى ضرورية للخروج من مسار التسوية، ولصياغة جديدة للسلطة الفلسطينية ووظيفتها.
يتبين أنّ الحلّ الأمثل الذي نقترحه، ويقترحه العديد من المهمومين بالشأن الفلسطيني، هو البدء بإعادة بناء منظمة التحرير، ثم نقل الملف السياسي إليها برمته، ثم إشراف التشكيل الجديد للمنظمة على صياغة وظيفة جديدة للسلطة الفلسطينية، بعد تحويلها إلى مؤسسة إدارية مجرّدة من الاشتغال السياسي ولكنها مستظلّة بسقف منظمة التحرير، وترتيب ما يحول دون هيمنة الاحتلال عليها، والنهوض بعبء مقاومة شعبية مؤثّرة تستند إلى وحدة وطنية سياسية واجتماعية.
أمّا البدء بانتخابات للسلطة الفلسطينية، فهو أولا لا يؤشّر على تحوّل جوهريّ في خيارات قيادة المنظمة/ السلطة، لا سيما وأنّه تكريس جديد لمسار التسوية، إذ السلطة بوظيفتها الراهنة، هي أهم الوقائع المنبثقة عن اتفاقية أوسلو وأضخمها، والانتخابات بخصوصها قبل تحويل وظيفتها فعليّا، هو التصاق جديد بأوسلو ومسار التسوية عموما، ولا ينبغي، والحال هذه، المبالغة في تصوير وجود تحوّل لدى قيادة السلطة، أو لدى مجموعات مؤثّرة في فتح تتولّى الحوار مع حماس في هذا الوقت.
بالنسبة لحماس، التي يهمّها استثمار أيّ لحظة تقارب مع فتح لبناء تفاهم وطنيّ، على أرضية الحدّ الأدنى المشترك الممكن، ومحاولة شقّ ثغرة لمقاومة شعبية تعتقد أنّها قد تقود لوحدة وطنيّة حقيقية، وتسعى لحماية نفسها، من الاستهداف الإقليمي، بالاستظلال بالبنى والمؤسسات القائمة، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، قد ترى أنّ هذا الممكن الوحيد في حدود ما يمكن أن يسمح به الحوار مع فتح، مراهنة على تحوّلات محتملة، تحملها هبّة شعبيّة، أو بدايات مقاومة شعبيّة جادّة.
لا يجيب هذا التقدير على أسئلة ماذا بعد، والتي تفحص احتمالات أكثر رجحانا، من قبيل التصوّر لإدارة السلطة، وبالخصوص في الضفّة الغربيّة الواقعة بالكامل تحت الاحتلال الأمني والعسكري والاستيطاني الإسرائيلي المباشر، سواء خاضت حماس الانتخابات بقائمة خالصة، أو مقرّبة، أو بقائمة مشتركة مع فتح، فالاحتلال القادر على اعتقال النواب والوزراء جميعهم في ليلة واحدة، كما فعل ذلك سابقا، لن يسمح بمشاركة حماس في سلطة بالضفّة، إلا بعد تقديمها تنازلات سياسيّة جوهريّة، وفي حين أنّها لن تفعل ذلك، ولأنّ تحوّلا جدّيّا لم يحصل لدى قيادة فتح، فإنّ احتمالات إنتاج الانقسام مرجّحة، وما يحول دون ذلك هو إعادة صياغة وظيفة السلطة سلفا، وبالفعل، من خلال تشكيل جديد لمنظمة التحرير، لا بتفاهمات ورقيّة لم تأخذ مفعولها في الواقع، وهذا لو افترضنا أنّ سيناريو العام 2006 لن يتكرّر بشكل أو بآخر.
ولأنّ إجراء الانتخابات المتفق عليها محلّ شكّ لدى العديد من المهتمين، بما في ذلك عامّة الناس الذين لا يُظهرون بعدُ ذلك الاهتمام بما يجري، بحسب ما نلاحظ من معايشتنا لهم، فإنّه ينبغي الاتفاق على تصورات بديلة، في حال لم تجر هذه الانتخابات لسبب متعلق بالاحتلال، أمّا وإن لم تجر لسبب متعلق بالفرقاء الفلسطينيين، فهو مدعاة لتكريس الإحباط من جديد.
وبين إعادة بناء منظمة التحرير أولا، وبين انتخابات تشريعية أولا من شأنها إعادة إنتاج الانقسام، ثمّة خيارات أخرى متوسطة، تراعي مخاوف فتح وامتناعها عن الذهاب باتجاه مواجهة مع الاحتلال، أو خسارة ما تجده في السلطة من مكتسبات خاصّة بها، وتمنح حماس قدرا من الحماية الوطنية، وتحول دون جرّها لتغطية استمرار مسار التسوية وفشله.
في تلك الخيارات المتوسطة، بقاء كلّ منهما في سلطته، مع الامتناع الكامل عن أي مناكفات أو خصومات أو تفرد باتخاذ أي خطوة سياسية، وحلّ الملفات الصغيرة والمتوسطة، وإرجاء ملفات الانقسام الكبرى، والسماح لكلّ منهما بالعمل المتفق عليه في مجال سلطة الآخر دون استهداف أمنيّ، والاتفاق على خطوات نضالية متدرجة، والتمثيل المشترك في الوفود السياسية، ومنح أهمية خاصة لانعقاد دائم لمجلس الأمناء العامين. وبالرغم من أنّ هذا الخيار شديد التواضع فإنّه أفضل من إعادة إنتاج الانقسام على أرضية أوسلو، في حال امتنع الاتفاق على البدء في إعادة بناء منظمة التحرير.