هناك عوامل وشواهد عدة تدل على أن منطقتنا والعالم يمران بمرحلة انتقالية سترسم فيها خارطة جديدة، وتشهد انهيار النظام العالمي القديم أحادي القطبية، وولادة نظام عالمي جديد لم تتضح معالمه بعد، وتتوقف مكانة كل طرف أو دولة فيه على وعيه، وكيفية تصرفه، وفي الوقت المناسب.
إن أهم العوامل المحركة للتغيير الصراع والتنافس الأميركي الصيني على قيادة العالم، الأمر الذي أدى إلى ما يشبه الحرب الباردة، وما أدى إليه ذلك من تنافس وصراع إقليمي في مناطق عدة، بما فيها منطقتنا، حيث تشهد تنافسًا بين ثلاثة مشاريع (إيرانية تركية إسرائيلية)، رغم الاختلافات الجوهرية فيما بينها، وخصوصًا ما تمثّله إسرائيل من كيان استعماري استيطاني عنصري يستهدف شعوب المنطقة جميعًا، وليس فلسطين فقط، بينما إيران وتركيا جارتان بينهما تقاطعات كبيرة مع العرب، ولهما أطماع، ومعهما خلافات، ولكنها قابلة للحل عبر الحوار والتنسيق والتعاون المتبادل. أما الغائب الأكبر فهو المشروع العربي، ما جعل المنطقة العربية بمنزلة الرجل المريض التي يتنافس ويتصارع الجميع على ميراثه دون ردة فعل تذكر.
إن جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، وعلى مختلف الجوانب، ليست المنشئة للتغييرات الحاصلة، والتي يمكن أن تحصل، بل كشفت المأزق العالم الذي يعيشه عالمنا، والعورات التي تشوب النظام العالمي.
ومن سوء حظ إدارة ترامب أن محاولاتها لإلقاء المسؤولية عن جائحة كورونا على الصين، ومنظمة الصحة العالمية، وخصومها الديمقراطيين، لم تنفع في التغطية على مسؤوليتها عن الإخفاق الذي بدأ واضحًا وضوح الشمس، بعد ما كشفه الصحافي الأميركي الشهير بوب وودورد في كتابه الجديد "الغضب"، الذي صدر في منتصف هذا الشهر، واستند إلى ثمانية عشر لقاء مسجلًا مع ترامب نفسه، وإلى مئات الساعات التي أمضاها مع أركان إدارته ومساعديه، واطلاعه على عدد كبير من الوثائق والمراسلات.
وجاء في هذا الكتاب أن روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي، سلّم ترامب بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير 2020، تقريرًا سريًا أوضح فيه أن فيروس كورونا خطير جدًا، ومميت، وأنه سيسبب خسائر كبيرة بالأرواح، وأكد نائب أوبراين ذلك مضيفًا إنه قد يكون بخطورة الوباء الذي ضرب العالم في العام 1918، وأدى إلى وفاة 50 مليونًا، منهم 675 ألف أميركي، ولم يكترث ترامب وأعلن فيما بعد بأن الفيروس مثل الإنفلونزا، ولا يوجد ما يستدعي الخوف منه، أو الإقدام على خطوات كبيرة .أفلا يستدعي ذلك تحقيقًا يمكن أن يؤدي إلى عزل ترامب وإدانته ومحاكمته؟
وما يزيد الطين بلة بالنسبة إلى إدارة البيت الأبيض، أن معدل النمو الأميركي لهذا العام سيكون وفق توقعات شهر أيلول 2020 منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية –3.8%، في حين يبلغ معدل النمو الصيني 1.8%، ما يعني أن كورونا لم تؤثر كثيرًا على مواصلة تقدم الصين وسيرها نحو تبوء المكانة التي تصبو إليها كالدولة الأولى في العالم.
وفي سياق عملية المخاض العالمية، تشهد المنطقة العربية والقضية الفلسطينية أيضًا مرحلة انتقالية، إذ تعمل إسرائيل وإدارة ترامب على استغلال حالة السيولة، وتجاوز أوسلو لصالح السعي لتصفية القضية الفلسطينية، بمختلف أبعادها، من خلال طرح رؤية ترامب التي تتضمن إقامة "إسرائيل الكبرى"، وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتعكس رؤية اليمين الديني والسياسي الإسرائيلي، والمضي في تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، بهدف إقامة تحالف عربي إسرائيلي أميركي ضد إيران، كجزء من خطة أكبر لقطع الطريق على خطة الحزام والطريق الصينية، على أمل أن يؤدي الشرق الأوسط الجديد إلى تجاوز عقبة القضية الفلسطينية، من دون الحاجة إلى الفلسطينيين، حيث يقوم تحالف إقليمي تقوده إسرائيل.
أو من خلال السعي لتوفير غطاء فلسطيني لمؤامرة تصفية القضية بعد تغيير السلطة القائمة بسلطة تقبل ما هو مطروح في رؤية ترامب من فتات للفلسطينيين، واستسلامها وموافقتها على الشروط والإملاءات الإسرائيلية فيما يخص الاعتراف بالرواية الصهيونية ويهودية الدولة الإسرائيلية، والتخلي عن القدس واللاجئين، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية إلى الأبد من النهر إلى البحر، مقابل حكم ذاتي محدود على قطاع غزة وجزء من الضفة الغربية يسمى "دولة فلسطينية"، هذا إذا انضوى القطاع تحت مظلة السلطة الجديدة، ووافقت حركة حماس على الشروط التعجيزية المطروحة في الرؤية الأميركية، وخصوصًا التخلي عن المقاومة ونزع أسلحتها وتصفية بنيتها التحتية، وإلا يبقى الانقسام ويتحول إلى انفصال.
تأسيسًا على ما سبق، فإن ردود الأفعال الفلسطينية الحاصلة حتى الآن ورغم أنها تعبر عن رفض فلسطيني جماعي لرؤية ترامب والضم، إلا أنها غير كافية لإحباطها، خصوصًا في ظل مؤامرة فرض الحل الإسرائيلي، والتحوّل النوعي بموقف النظام السياسي الرسمي العربي نحو التطبيع والتحالف مع إسرائيل، ما يستدعي ردًا فلسطينيًا بمستوى التحدي، وهذا لم يظهر حتى الآن.
والسبب الأهم لعدم تبلور الرد المطلوب والملح أن القيادة الفلسطينية والقوى الفاعلة مترهلة ومتقادمة وتنتظر وتراهن على متغيرات تحصل في المنطقة تؤدي إلى هزيمة المخطط الإسرائيلي، والبعض يحلم بالقضاء على "إسرائيل" خلال عامين بالقفز عن حقائق الوضع ومآلاتها الأكثر احتمالًا، وموازين القوى المختلة لصالح إسرائيل وحلفائها القدامى والجدد.
أو تراهن على الانتخابات الأميركية القادمة واحتمال سقوط ترامب ونجاح بايدن، وما يعنيه ذلك من العودة إلى "جنة" عملية السلام المفقودة منذ سنوات، غير مدركين أن الاختلاف بين بايدن وترامب على أهميته، لكنه لا يصلح للاعتماد عليه، كون السياسة الأميركية في أهدافها الأساسية، وجوهرها ثابتة، ويعبر عنها بالإستراتيجية الأميركية المحددة والمرسومة من الدولة العميقة الأميركية، ولا يستطيع أن يخرج عليها أي رئيس أميركي بشكل حاسم، مع أهمية ملاحظة التغييرات المهمة الداعمة للقضية الفلسطينية، والحاصلة في موقف الرأي العام الأميركي، وداخل التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي.
من المهم جدًا رؤية الفرق بين موقف الحكام والشعوب، والبناء عليها، والخلافات والتناقضات والفروقات داخل صفوف إسرائيل والولايات المتحدة، والدول العربية المطبعة، والعمل للاستفادة منها إلى أقصى حد، ولكن من دون تهويل ولا تهوين، وضمن رؤية تفيد باستحالة الاستفادة منها، وتوظيفها لصالح القضية الفلسطينية ما لم يكن اللاعب الفلسطيني موحدًا وفاعلًا ومبادرًا وواقعيًا، بمعنى أن يسعى لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، ويحافظ في نفس الوقت على أحلامه وأمانيه وأهدافه التي تسير به نحو المستقبل.
إن الشرط لتحقيق ذلك إدراك أن فلسطين لا تزال تتمتع بأوراق قوة، أهمها عدالة القضية وتمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه، وتواجد نصفه على أرض وطنه، واستعداده لمواصلة الكفاح لتحقيقها، ورغم ذلك علينا الاعتراف أنها تمر بمرحلة دفاع إستراتيجي، ما يجعل الإستراتيجية المطلوبة هي التي تسعى للحفاظ على القضية حية، وعلى المكتسبات المتبقية، وعلى استمرار تواجد الشعب على أرض وطنه، وتوفير مقومات الصمود والمقاومة المثمرة، وتقليل الأضرار والخسائر، باعتبارها أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، مع العمل على شق الطريق للمستقبل، بما يحقق إحباط المخططات المعادية، ويكفل وضع اسم فلسطين على خارطة العالم الجديد.