من مظاهر معاناة أهالي قطاع غزة الذين يعيشون حصارا محكما منذ 13 سنة أن التيار الكهربائي لا يعمل عندهم إلا بنظام (4 ساعات وصل فقط في المعدل) ولذا يضطر الذين تسمح لهم مواردهم المالية-وما أقلهم ضمن مليوني إنسان في القطاع- إلى البحث عن مصادر طاقة بديلة. والكارثة تتجسد في فقراء يلوذون بإنارة بيوتهم المتهالكة البائسة بالشموع، فتشتعل الحرائق التي تحصد الأرواح والممتلكات، وكان آخرهم ثلاثة أطفال من عائلة الحزين، احترقوا وتفحمت أجسادهم الغضة في مخيم النصيرات بسبب شمعة مطلع أيلول/سبتمبر الجاري، والسبب طبعا انقطاع التيار الكهربائي جرّاء الحصار الإسرائيلي الجائر الظالم.
الموت البطيء أو الاستسلام أو الحرب
الفقر والبطالة يفتكان بأهل غزة، والحصار يقتلهم بأسلوب الموت البطيء، وأتتهم جائحة كورونا التي كانوا في راحة منها كي تزيد مآسيهم وآلامهم، وبدون فذلكات أو استدعاء تعبيرات مزركشة؛ فإن المطلوب من غزة أن تقوم فصائل المقاومة فيها، وفي مقدمتها(حماس) بتسليم أسلحتها خاصة الصواريخ والقذائف، كي يتم تخفيف هذا الحصار إلى حد يسمح لأهالي غزة، بممارسة أمور طبيعية روتينية يقوم بها أي تجمع سكاني آخر في القرن الحادي والعشرين، وإلا فالموت البطيء على ظهر الحصار سينهش الناس، والفصائل المقاومة، ليسوا غرباء أو طارئين، بل هم أبناء القطاع الذين ولدوا وترعرعوا فيه. والخيار الثالث بعد الموت البطيء أو الاستسلام المذل المهين، هو حرب طاحنة ينوي فيها قادة الاحتلال قتل أكبر عدد ممكن من الغزيين خاصة الأطفال والنساء والمدنيين العزل، والتجارب معروفة، مع فارق أن عدد القتلى وحجم الدمار سيكون أضعاف ما كان عليه الحال في الجولات السابقة!
طرق الجدران بالبالونات
لكن غزة رفضت الاستسلام وستظل ترفضه بعون الله حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ونفذ صبر أهلها على الحصار والموت البطيء المنظم الذي يقضي على آمال الشباب الذين يشكلون الشريحة الكبرى من سكانها، وأيضا فإن خيار الحرب مؤلم وأكلافه باهظة، ولا ضمان لأن تسفر عن رفع الحصار، في ظل وضع عربي اختار إما التفرج أو الهرولة لتطبيع العلاقات مع (أعداء الأمس)، ووضع دولي ينحني لقادة الاحتلال خوفا أو طمعا أو حقدا على هذا الشعب. ورأت المقاومة في غزة أنه في حال فرضت عليها الحرب فستخوضها ببسالة، ولكنها ستحاول تجنبها، أو على الأقل تأجيلها، لأن كل يوم يمر يصب في رصيد تعزيز ومراكمة قدراتها القتالية، كما صار معروفا للقاصي والداني.
فقررت غزة، التي لطالما أبهرت العدو والصديق والمراقب، بإبداعاتها وأفكارها، طرق جدران خزان الحصار، فانطلقت بالونات حارقة تكلفتها بسيطة جدا، ولكن كان مفعولها كبيرا؛ فاشتعلت مئات الحرائق التي سببت أضرارا مادية كبيرة في منطقة مستوطنات غلاف غزة والنقب الغربي، ومعروف أن الاحتلال لا يكترث كثيرا للخسائر المادية، فصنابير أموال الغرب تحت تصرفه المطلق، وحاليا قد تفتح عليه حتى صنابير المال (العربي) ولكن الأهم هو تهديد المنظومة الأمنية في جنوب فلسطين المحتلة ليس بصواريخ وقذائف وعمليات تسلل، بل بأسلوب بسيط لم ينفك قادة الاحتلال وإعلاميوه عن وصفه بالبدائي!
تصعيد وصولا إلى تهدئة هشة
وهنا قرر الاحتلال التعامل بأسلوبه المعروف (السهم المرتد) بحيث يغير المعادلة ويقلب قواعد اللعبة المستمرة منذ سنوات، فقرر التعامل مع البالونات الحارقة كتعامله مع الصواريخ بالرد بإطلاق الصواريخ على مواقع المقاومة وأراض زراعية وغير ذلك باستخدام الطيران الحربي والدبابات، مع تشديد الحصار بمنع الصيادين من الإبحار لالتقاط أرزاقهم، وإغلاق المعابر ومنع إدخال المواد الشحيحة أصلا عبر المعابر، بما في ذلك الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء. وفصائل المقاومة لا تتبنى إطلاق البالونات وتعتبرها نوعا من المقاومة الشعبية الرافضة للحصار، ومطلقوها يستخدمون أسماء تنظيمات ومجموعات ليست معروفة، ولكن الحقيقة أن فصائل المقاومة هي التي تمسك الدفة ولا تنطلق البالونات دون علمها أو تمويلها أو مشاركتها الفعلية، ولا تتوقف إلا بإشارة منها.
هنا قامت فصائل المقاومة بقصف صاروخي مدروس بدقة كما يبدو، مع تصريحات إعلامية بعيدة عن الإفراط في الشعارات الفضفاضة، وتمثل موقفها برفض لا يقبل التفاوض أو الدراسة لتغيير قواعد اللعبة وأن معادلة (صاروخ مقابل بالون) لا محلّ لها فيما سيكون عليه الحال، وأن الحصار قد طال أمده ولم يعد بالوسع تحمله أكثر، وأعلنت استعدادها لخوض مواجهة عسكرية واسعة مع الاحتلال. هنا تحرك الوسطاء وأتى وفد أمني مصري لتبادل الرسائل بين المقاومة والاحتلال، وجاء السفير القطري (محمد العمادي) وبلغت القلوب الحناجر، حتى أعلن العمادي عن التوصل لاتفاق يقضي بوقف التصعيد، شارك فيه عن قطر –إضافة للعمادي- نائب رئيس مجلس الوزراء الشيخ عبد الرحمن آل ثاني.
ويدرك القطريون والفلسطينيون وقادة الاحتلال والمستوطنون الصهاينة أن الاتفاق نزع فتيل الأزمة فقط، وأسفر عن تأجيل لانفجار الأوضاع، بانتظار جولة جديدة لا ندري كيف ستنتهي، بعد أسبوعين من التصعيد والتسخين. وقادة الاحتلال كانت لهم حساباتهم في ظل أزمة كورونا والأزمة السياسية الحزبية الداخلية عندهم، وقرب موعد الانتخابات الأمريكية، والتوتر مع حزب الله في الشمال، ورغبتهم بعدم تكدير أجواء التطبيع مع الإمارات وغيرها حاليا…ولكن بقيت غزة شوكة في حلق المشروع الصهيوني، ولغزا مستعصيا على الحل؛ فضعفها هو قوتها، وهي ليست دولة كبرى ولا عظمى (شريط ساحلي ضيق مساحته 365 كم2).
غزة تعطي ما بات مفقودا
كثيرة هي القصائد التي تتغزل بغزة وبطولتها ومقاومتها، وأكثر منها المقالات والمنشورات والمرئيات، هي تستحق هذا الإطراء والغزل وأكثر منه…وأكثر! ولست هنا في معرض الغزل وكيل المديح لغزة ومقاومتها وأهلها، وأيضا لست أملك مَلكات من فعلوا ويفعلون وحسن بيانهم.
بل سأذهب مذهبا مختلفا نسبيا فأقول: غزة ليست حالة مثالية؛ ففيها من المشكلات ما يثقل كاهل البيانات الإحصائية، وتفتقر إلى حسن الإدارة والحكم الرشيد، وهي طاردة بحكم واقعها لكثير من الشباب الطامح إلى العيش كباقي نظرائهم في العالم، بل لربما في الجوار، وتقع في غزة جرائم وجنايات بشعة في بعض الأحيان، مثلها مثل أي منطقة أخرى، ويرغب أهلها في التمتع بخدمات التعليم والصحة المناسبة لحاجتهم وعددهم، وهم يشعرون أنهم في سجن كبير، يمتاز بأنه أكثر مناطق العالم من حيث الكثافة السكانية ويريدون أن يعملوا بعد التخرج، ومن لا يتعلم يريد أن يعمل في قطاع يناسب قدراته، ويريدون الجلوس والعودة إلى بيوت لا تنقطع عنها الكهرباء…يريدون كل شيء يريده الناس، ولا يرغبون أن تكون نهايتهم –في العموم- أشلاء متناثرة بفعل قصف الإف16 ودبابات المركافاه…ولكن ببساطة لا يريدون أن يكون هذا مقابل الخنوع والاستسلام للاحتلال والتنازل عن الحقوق، خاصة حق العودة…للتذكير فإن حوالي ثمانين في المئة من سكان القطاع من اللاجئين.
غزة بغض النظر عن كل مشكلاتها والمآخذ عليها هي رأس الحربة في التصدي للمشروع الصهيوني، وتجترح المعجزات للنكاية بالاحتلال، وهذا ما يميزها عن غيرها. وهناك شيء امتاز به العربي، وكان مبنيا على عصبية مقيتة، فجاء الإسلام وأعاد صياغته وشحنه باتجاه الاعتقاد ألا وهو العزة والكرامة…فالعربي مهما (تعولم) يعشق العزة والكرامة، ويسعى إليها ويراها تستحق التضحية، وهي موجودة في غزة في زمن التخاذل والتطبيع والخذلان…وهذا ليس كلاما إنشائيا عاطفيا. قد يكره العربي حماس والإخوان المسلمين التي هي فرعهم الفلسطيني، وقد يكون لبعض العرب موقف ليس وديّا تجاه الإنسان الفلسطيني لسبب أو لآخر، ولكن العربي(ما لم يتصهين) يحب ما تبقيه غزة للعرب، وهو أهم ما حرصوا عليه وآلمهم فقدانه أو نقصان منسوبه، في زمن ما أو مكان ما في ظرف ما…أي الكرامة والعزة، وعدم الخضوع لإملاءات العدو مهما بلغت قوته وقوة من يقف وراءه ويسنده…هذا قدر غزة في هذا الظرف وهذا العصر.
قبل موجة التصعيد الأخيرة وأثناءها وبعدها تواصل المقاومة إطلاق الصواريخ التجريبية نحو البحر؛ وهي صواريخ ليست بقوة وفعالية (سكود أو كروز) وغيرها، ولكنها تستطيع أن تضرب تل أبيب وغيرها دون التمترس وراء عبارة (حق الرد في الوقت والمكان المناسب) بل إن مقاومة غزة حتى حين كان هناك اتفاق على وقف القتال كانت تقصف في الدقائق الأخيرة لبدء موعد التنفيذ…فغزة هي التي دوما تضبط البوصلة في اتجاه الحق الذي لا مراء فيه، فكيف في زمن صارت فيه بوصلة أخرى تشير نحو التطبيع وقبول الدنية في الدنيا والدين؟!
غزة صارت آخر قلاع العزة العربية، بل والإسلامية، وهي الأمل الوحيد حاليا، الذي قد تتولد منه آمال، فرغم الفقر والبطالة والبنية التحتية المهترئة والبؤس وانسداد الأفق، يجزم أي منصف أنها أكثر أسباب الأرق عند قادة الاحتلال ومستوطنيه، وأنها لا تقف عن مطاردة الاحتلال بكل الوسائل التي تتجدد وتتغير حسب الظروف…كان الله في عون غزة، وحفظها الله وهي تبلور للأمة أنموذج الكرامة والعزة.
المصدر: مدونات الجزيرة