لم يكن البيان الأمريكي الإسرائيلي الإماراتي المشترك الذي صدر في 13 آب/ أغسطس 2020، والذي يعلن عن التطبيع الكامل بين الإمارات والكيان الصهيوني، مفاجئاً، لأنه جاء نتيجةً منطقية لمسار تطبيعي معلن وغير معلن في السنوات الماضية. غير أن اللافت فيه أنه تمّ تقديمه في سياق تحقيق الإمارات مكسبا للقضية الفلسطينية بالتزام "إسرائيل" بتعليق عملية ضمّ أجزاء من الضفة الغربية. وهو سياق أقل ما يقال فيه أنه استخفاف بعقلية الإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم و"استهبال" لها. ذلك أن البيان نفسه يذكر أن "التعليق" كان بطلب من ترامب نفسه. كما أن تعليق الضم كان قد تمّ أصلاً قبل شهر ونصف منذ مطلع تموز/ يوليو 2020ح نتيجة وحدة وصلابة الموقف الفلسطيني، وعدم توفر غطاء أمريكي لعملية الضم، مع وجود اعتراضات دولية واسعة عليه. فكانت عملية تأجيل الضم هي تحصيل حاصل. والإمارات بنظامها السياسي الحالي ليست أصلاً في وضع سياسي ولا جيوستراتيجي يمكنها من إحداث فارق نوعي في الشأن الفلسطيني.
وبالتالي، فإن "تعليق" الضم تمّ "بيعه" للنظام الإماراتي لمحاولة مواراة عورات جريمة التطبيع والانفتاح الشامل على العدو. ومع ذلك، فإن نص البيان لم يتكرم على الإماراتيين إلا بإشارة إلى أنه "نتيجة لهذا الاختراق الدبلوماسي، وبناء على طلب ترامب وبدعم الإمارات، ستعلق إسرائيل إعلان السيادة على المناطق المحددة في رؤية الرئيس للسلام..."، فأظهر الإمارات مجرد داعم لموقف ترامب، وليست فاعلة أو مؤثرة في القرار. وتكفل نتنياهو في اليوم نفسه بإلغاء أي قيمة للموقف أو الأداء الإماراتي، عندما أعلن أنه ما زال ملتزماً بمسألة الضم، وأنه لن يتنازل عنها، وأنها ما زالت على الطاولة وعلى جدول أعمال حكومته.
وفي الحقيقة فإن وجهة نظر ترامب من التأجيل تخدم في جوهرها الموقف الإسرائيلي؛ من حيث سعيها لإحداث اختراق تطبيعي في المنطقة العربية، بما يقوي الوضع الاستراتيجي الإسرائيلي، ويكشف ظهر الجانب الفلسطيني ويعزله ويضعفه، ويُسهِّل سُبل الضغط عليه، بالإضافة إلى تشتيت وتمزيق البيئة العربية "المهلهلة" أصلاً، والتي ما زالت متمسكة حتى الآن بالحد الأدنى لمسار التسوية وفق "المبادرة العربية".
وبناء على ذلك، فإن عملية التطبيع تعني تنفيذاً عملياً لصفقة ترامب (أو ما عرف بصفقة القرن)؛ وتجهيزاً أفضل لأرضية الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية.
* * *
سيكون التطبيع الذي تم الإعلان عنه شاملاً، حيث سيتم في الأسابيع القادمة توقيع اتفاقات بين الإمارات والكيان الصهيوني متعلقة بتبادل السفارات، وبالاستثمار، والسياحة، ورحلات الطيران المباشرة، والأمن والطاقة والرعاية الصحية والثقافة والبيئة... وغيرها، ورأى الطرفان في هذا التطبيع تعزيزاً للنمو الاقتصادي والسلام والابتكار في المنطقة.
أما التعاون الأمني فسيصب في تعزيز الدور الإسرائيلي كشرطي للمنطقة، وفي حرف بوصلة الصراع مع العدو الصهيوني إلى النزاعات الطائفية والعرقية والحرب مع إيران، وإلى دعم استقرار الأنظمة الفاسدة والمستبدة، ومتابعة الحرب على التيارات الإسلامية وقوى التغيير الحضاري والنهضوي في المنطقة. ولذلك لم يكن غريباً أن يعدّ ترامب هذا الاتفاق أهم إنجاز في مسار التسوية منذ ربع قرن، كما عَدَّه نتنياهو يوماً تاريخياً وانفراجة تاريخية نحو ما أسماه "السلام" في الشرق الأوسط.
ولم يكن من المستغرب أن تسارع البحرين في تأييد الخطوة الإماراتية وتهنئتها عليها، إذ إن البحرين نفسها مرشحة لأن تكون قريباً الاختراق الإسرائيلي التالي في مجال التطبيع. كما سارعت مصر بتأييد الخطوة الإماراتية، بما يوحي بأن ثمة تنسيقاً ومعرفة مسبقة بذلك.
* * *
هناك إجماع فلسطيني على رفض الخطوة الإماراتية، من قيادة المنظمة والسلطة والفصائل والقوى المختلفة، واعتبار هذا التطبيع بحسب البيانات التي صدرت؛ طعنة في قلب القضية الفلسطينية ووصمة عار في جبين النظام الإماراتي، وخيانة للقدس والأقصى وفلسطين، ومكافأة للكيان الصهيوني على جرائمه، بالإضافة إلى أنه بالنسبة لقيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وفتح؛ ينسف مسار التسوية السلمية ومباردة السلام العربية...
وبالرغم من أننا مع الوقوف بأقوى ما يكون ضد الخطوة الإماراتية، وندعو إلى تصليب الموقف الرسمي والشعبي الفلسطيني والعربي والدولي، فإن قيادة المنظمة والسلطة التي شجبت هذا التطبيع بطريقة غاضبة أيضاً، كان عليها أن تدرك أنها تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عما آل إليه السلوك العربي تجاه قضية فلسطين. فهذه القيادة "شرعنت" عملياً العلاقات مع العدو، و"شرعنت" التنازل عن معظم فلسطين، وأقامت كياناً وظيفياً اسمه "السلطة الفلسطينية" خدم أغراض الاحتلال وطارد قوى المقاومة، ووفرت غطاء لمسار استفاد منه الاحتلال في تهويد الأرض والمقدسات. وهذه القيادة هي التي أضعفت منظمة التحرير وأضعفت مؤسساتها، واحتكرت التمثيل الفلسطيني و"الشرعية الفلسطينية" لفصيل فلسطيني معيَّن، بينما سعت جاهدة لعزل القوى الفاعلة الأخرى، وتنكَّرت لفلسطينيي الخارج... فأنشأت وضعاً فلسطينياً مهترئاً... يدفع الجميع الآن بعض فواتيره، والتي من بينها عملية التطبيع بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني.
* * *
وكما أشرنا، فقد سبق هذا الإعلان عن العلاقات الرسمية سنوات من العلاقات التي أخذت تطفو على السطح خصوصاً في السنتين الماضيتين. وشملت العلاقات زيارة وزراء إسرائيليين كما في زيارتي ميري ريجيف، وزيرة الثقافة والمتحدثة سابقاً باسم الجيش الإسرائيلي، وأيوب قرا، وزير الاتصالات في سنة 2018، وزيارة يسرائيل كاتس، وزير الخارجية، في سنة 2019.
وعلى الصعيد الاقتصادي، جرى الاتفاق على تمويل أبو ظبي لمشروع خط غاز يربط الكيان الإسرائيلي بأوروبا وعلى امتداد ألفي كيلومتر. وشمل مجال التعاون العسكري والأمني شراء الإمارات لطائرات تجسس إسرائيلية، وشراء برامج تجسس وتحديداً "بيجاسوس"، والمشاركة في مناورات عسكرية؛ هذا بالإضافة إلى التطبيع الرياضي، والتطبيع السياحي من خلال موافقة الإمارات على استخدام جوازات السفر الإسرائيلية في الحصول على تأشيرة ودخول الإمارات... وغيرها.
* * *
يبدو ضمن الأهداف الأخرى غير المعلنة للتطبيع الإماراتي مع الصهاينة؛ رغبة الإمارات بتقديم دعم للرئيس ترامب في حملته الانتخابية والتي تواجه صعوبات حقيقية، من خلال تحقيق إنجاز يسمح له بتسويقه في البيئة الأمريكية والدولية.
كما يظهر أن الإمارات ترغب في تجنب الضغوط الأمريكية في بعض الملفات الإقليمية وخصوصاً الملف الليبي؛ فكان هذا "القربان" لاستمرار إطلاق يدها في البيئة الإقليمية. كما "الرضا" الأمريكي مطلوب لمتابعة إدارة ملفاتها الداخلية، بعيداً عن الطروحات أو الضغوط المتعلقة بالحقوق السياسية والديمقراطية والحريات وملفات حقوق الإنسان.
من جهة أخرى، هناك تسريبات من أن الاتفاق يشمل توافقاً إسرائيلياً أمريكياً مع الإمارات على "تسويق" محمد دحلان وإعادته إلى مناطق السلطة، باعتباره يمثل بديلاً مقبولاً لهؤلاء مكان قيادة السلطة الحالية الرافضة لصفقة ترامب، وباعتباره مُنفذاً محتملاً "أفضل" في رأيهم لأي ترتيبات يسعى الطرفان الإسرائيلي والأمريكي لفرضها على الفلسطينيين.
* * *
من خلال هذا الاتفاق، وبما يحمله من مضامين، تدخل الإمارات فعلياً ليس فقط في علاقة براجماتية مع الكيان الإسرائيلي، وإنما مشاركة في تنفيذ صفقة ترامب، ومعززة للأطماع والخطط الإسرائيلية في تهويد القدس وفي ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، حيث جرى تأجيلها فقط لتقوية الإمكانيات العملية لتنفيذها. وهو ما يمثل بالفعل طعنة عميقة في قلب القضية الفلسطينية، في وقت هي أحوج ما تكون فيه للدعم والمساندة.
وفي مواجهة هذا السلوك الرسمي الإماراتي، لا بدّ من التأكيد على أصالة الشعب الإماراتي ودعمه العميق لقضية فلسطين. ولا بد من الدعوة لتقوية وتصليب الجبهة الوطنية الفلسطينية في الحفاظ على الثوابت، وفي مواجهة التنازلات؛ وفي تفعيل دور الشعوب العربية والإسلامية في مقاومة التطبيع؛ وفي توسيع الدور العالمي الداعم لفلسطين وتحرير أرضها.