في السادسة وثماني دقائق بالرابع من آب حسب توقيت انفجار مرفأ بيروت، توقفت الأرض عن الدوران وسكنت الأشياء في غير مكانها، فوصلت ارتداداته كلّ مكان، فهزّت عروش المشايخ والأذناب والأمراء الذين حاصروا بيروت، لأنها كانت وستظل عصيّة عليهم وعلى أسيادهم، ووصلت ارتداداته إلينا داخل السجون الإسرائيلية، وكأن الكارثة حلّت بمنارة رام الله، في بيت ريما، في بيتنا بل ودواخلنا...
نضبت الدموع من المآقي يا بيروت، بكت القلوب صغارك وكبارك الذين قضوا في الفاجعة، ألماً وحزناً وحباً لك وعليهم يا بيروت، نهبوكِ وأمعنوا فيكِ تقبيلاً وفسادا، وبقيتِ الأم الحاني حاضنة من لا بيت له ومن هُجّر من أرضه وتآمر عليه أبناء جلدته، عصيّة على الغرباء والمحتلين والمتآمرين والسّد المنيع، لم تكسر عزيمتك حروباً توالت، وعلى صخرة مقاومتك تكسّرت كل أحلام الطامعين والسماسرة والمطبّعين، فأنت الصغيرة والكبيرة، البداية والنهاية، المَلحمة والبطولة، الشهادة والولادة من تحت الرّماد، يا عنقاءنا قومي كما عهدناكِ من جديد أكثر قوة وأشد مَضاء، يا عاصمة المقاومة والحرية والانتصارات، يا صانعة الثقافة والحضارة والمجد...
لا يُمكن تجهيل الفاعل، فمشاهد الدمار المفجعة وصور الشهداء والجرحى ومئات آلاف المشردين، تُعيدنا بالذاكرة لحرب تموز 2006، وما أُريد من خلالها تحقيقه، فهو نفس العدو والمتآمرين أنفسهم، والمشروع القديم الجديد نفسه وبالضرورة النتيجة نفسها، أُريدَ من تلك الحرب ولادة شرق أوسط جديد كما جاء على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس آنذاك، تابع ومُطبّع ومُستسلِم ورسم خارطة جديدة للمنطقة وِفق رغبات وأطماع الكيان الصهيوني وأذنانه، والهدف رأس المقاومة، إلا أن المقاومة وصمود هذا البلد الصغير قطعت رأس هذا المولود المسخ المسمى شرق أوسط جديد.
إن إهمال هذه الكمية الهائلة من نترات الأمونيا في قلب وعصب بيروت لا يُمكن وضعه تحت إطار الفساد السلطوي المتعاقب فقط، وإنما مخزون تدميري وتحريضي لاستخدامه عند الطلب، خاصة وأن أجهزة استخبارات خُماسي الشر الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية والسعودية والإماراتية حاضرة بشكلٍ فاعل وبالوكالة في المرفأ، فبعد أن فشلت هذه الخماسية ومن خلال بعض الأحزاب اللبنانية أيضاً للأسف، بمحاصرة بيروت وحزب الله وخنقه عسكرياً بإرسال التكفيريين الإرهابيين واقتصادياً بوضع العقوبات ومحاصرته دولياً، واجتماعياً بفصله عن عمقه العربي، حيث سارعت هذه الخماسية وأدواتها لتحميله المسؤولية والمطالبة بنزع سلاحه ومحاولة تأليب الشارع اللبناني عليه وربط المساعدات للبنان بالإصلاح السياسي وعزله عن الساحة اللبنانية وإنهاء دوره كشرط للإصلاح، عمدت إلى قلب الطاولة واستخدام المصيبة المُخبّأة بالتفجير.
إن الأحرار في الشارع اللبناني على غالبيتهم مدركين تماماً لدور حزب الله منذ تأسيسه في الخامس والثمانين من القرن المنصرم، فهذا الحزب الذي قدّم آلاف الشهداء والجرحى والأسرى والتضحيات وقد شُرّد أهله وظُلم، خاض حروباً عدّة ضد التكفيريين والكيان الصهيوني وانتصر عليهم وحرّر الجنوب، دفاعاً عن كرامة لبنان وحرّية لبنان ومستقبل لبنان الذي سيكون عصياً على الكسر، وهذا ما أكده طاووس فرنسا المغرور ماكرون فور عودته لفرنسا عائداً من أرض الفجيعة، في اتصال مع سيده ترامب قوله "إنّ حصارنا لبيروت وحزب الله جاء بنتائج عكسية"، فبالرغم من الخسارة الفادحة للبنان سيكون ما بعد 4 آب يختلف عمّا قبله على كلّ الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وستقطع أرجل وأيادي الخماسي العابثة في لبنان وأيضاً بشفافية...
وستثبت الأيام أن الفاعل نفسه، وأن لبنان الصغير أكبر من أن ينهار، ما دامت بيروت عاصمته ومقاومته بالمرصاد.
"وتضامناً مع المتضررين والشعب اللبناني الحبيب أتقدّم بالتبرّع براتبي كمساهمة بسيطة علّها تخفف القليل من جراحكم".