أريحا- خاص قُدس الإخبارية: على بعد بضعة كيلومترات شمالاً من مدينة أريحا، وتحديداً إلى الشرق من عين "ديوك"، تقع آثار خربة المفجر والتي احتضنت أطلالاً لقصر أموي، قصر عُد من أروع وأجمل ما عمّره الأمويون، وقد بني في بيئة قاسية شبه صحراوية معلناً أن الجمال يحل في أي بيئة وتحت أي ظرف حتى ولو كان في صحراء قاحلة! ولعل الهدف الرئيسي من بنائه في هذا الموقع ليكون مشتاً لصاحب القصر يدرأ عنه برد الشتاء فيقصده لينعم بدفيء الأجواء هناك.
نسب قصر هشام بن عبد الملك _ومن اسمه نستنتج_ إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، ومنهم من نسبه إلى الوليد بن يزيد والذي عُرف بفخامة قصوره وزخارفه المبالغ فيها لميله للتمتع بالحياة! وهو ما يدل على أن القصر قد كان آية في الفخامة والجمال، إلا أن المرجح أن البناء بدأ سنة (724-743م) حيث تولى هشام خلافته عام (105-125هـ) (724-743م) أي بفترة البدء بإعمار القصر، هذا بالإضافة إلى وجود نقشين كتابيين بالموقع يؤكدان نسبته لهشام بن عبد الملك.
وقد عكس التراث الأموي في خربة المفجر نتاج جديد من الفن والعمارة، حيث جمع في أروقته وساحاته بين التراث والفن اليوناني، والروماني، والبيزنطي، والمصري والساساني وبين الفن والتراث الإسلامي، فصُيِرَ فن جديد أتقن بطريقة إبداعية وخلق توازناً بين الدين والدنيا، وهو ما نشاهده في أرضيات الفسيفساء، والزخارف، والتماثيل الجصية والحجرية الموجودة في القصر والتي بالفعل قد شدت الأنظار لها.
بدأ التنقيب في الخربة عام 1933م على يد عالم الآثار المقدسي د. ديمتري برامكي وغيره من المنقبين، واكتشفوا بحفرياتهم وتنقيباتهم قصراً، وجامعاً، وحمامات، وفناء أمامياً ذا أعمدة، وبركة مزدانة بالزخارف، إلا أن ويلات نكبة 1948م أوقفت التنقيب في الموقع لفترة ما، ليعود الدكتور عوني الدجاني في فترة 1957م بالبحث عن أسوار القصر ليجد بيوت العمال الذين بنوا القصر، كما وجد بهذه الفترة في مخازن القصر كميات من الحبوب والزبيب والتمر والسمسم، كما وجد مواقد وأفران.
يتألف البناء بحسب أغلب المصادر من قسم للحريم وفيه ساحة للاستحمام والاستجمام ، وغرفة استراحة للخليفة، وهذا القسم مزين بالفسيفساء الجميلة، وقسم آخر يطلق عليه البلاط ويضم قاعة للمحكمة، وغرف للإدارة، وجامع للصلاة، ومحراب ومئذنة، كما اشتمل البناء على حمامين اثنين: أحدهما للرعية، والآخر لحاشية الخليفة، كما وضم القصر بركتان مائيتان زينت إحداهما بنماذج منحوتة من الجبس والحجارة لطيور وحيوانات وتماثيل بشرية مزخرفة، أما البركة الأخرى فقد زينت بأرضية من الفسيفساء باذخة الجمال، أما ما يميز ساحة القصر هي تلك النجمة والتي تتألف من (92) حجراً على شكل نجمة، وقد صارت رمزاً للقصر ولمدينة أريحا لاحقاً، كما وامتاز القصر بكثرة الزخارف المنتشرة على أسواره الخارجية على شكل مثلثات ودوائر هندسية في وسطها ورود وأزهار مختلفة وعناقيد عنب وطيور وحيوانات خرافية.
ولعل ما يميز هذا القصر هو تلك القطعة الفسيفسائية النابضة بالحياة والتي عدت من أضخم القطع الفسيفسائية القديمة، حيث تصور شجرة نارنج (شجرة الحياة) محملة بالثمار، وإلى اليسار منها غزالان يقضمان الأعشاب، أما في يمين الشجرة فيظهر أسد يهاجم غزالاً آخر، فيتراءى للناظر إليها مدى مهارة الصانع، وحجم الجهد المبذول فيها، وكمية الجمال المصهور بين كل فسيفساء والأخرى.
عشرون عاماً تلك التي استغرقها بناء هذا الصرح، لا يستطيع أحد على وجه البسيطة أن يعطيه حقه في مقال، كيف ننصف مئات النحاتين، والفنانين، والعمال والحرفيين الذين استهلكوا أعمارهم في بنائه، أو إن صح التعبير في رسمه، وعلى الرغم من ذلك كله فلم يأخذ القصر ذو العمر القصير حقه في التعبير عن نفسه إذ ضربه زلزال مدمر في سنة (129هـ/747م) بعد أربع سنوات فقط من الفراغ من بنائه، حاله حال معالم تاريخية أخرى: ككنيسة القيامة بالقدس، وكنائس جرش، فغدا القصر بعدها كأن لم يَغْنَ بالأمس إذ صار بعدها مهجوراً ،إلى أن تجدد العمران في مدينة أريحا وأخذ الناس ينقلون حجارة القصر المنحوتة والمزخرفة لبناء منازلهم!
تم التكاتف بين خبراء الآثار والترميم وشركاء محليين ودوليين لتحويل هذا الموقع المهمل في فترة الاحتلال الإسرائيلي إلى نموذج أثري حديث، وزود بالمرافق والخدمات السياحية، ومركز تفسير ومتحف خاص بالقصر، وبالتالي فقد أصبح مزاراً سياحياً يذهب إليه من يرغب برؤية التاريخ بأم عينه.
يذكر أن قصر هشام ليس القصر الوحيد الذي بني بالفترة الأموية وتحديداً في بوادي الشام، إلا أنه تصدر القائمة من حيث جماليته وفخامة بنائه حيث إن امتزاج الفنون من مختلف الحضارات أضفى جمالاً مضاعفاً يسلب خباب عقل الرائي.
- زكي محمد حسن، فنون الإسلام.
- ارشيد أبو ارشيد، الحضارة الإسلامية، 2005م.
- مجموعة من الكتاب والباحثين، القصور في العمارة الإسلامية،
- الحج، العلم، والصوفية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007م.
- مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، قسم 2، جزء 8، 1991م.