على كثرة التعدّيات على الحريّات الشخصيّة التي يقدم عليها أفراد من أجهزة أمنيّة تابعة لحكومة حماس التي تحكم قطاع غزّة (هذه تدوينة كتبتها علا عنان عن مجمل التعديات في العامين الفائتين)، وعلى القرب النسبيّ الذي أحاول الحفاظ عليه -رغم وجودي شبه الدائم بالقاهرة- مع تلك التصرّفات ودراسة انتشارها ومفاعيلها الاجتماعيّة لأغراض توثيقيّة ومعرفيّة، إلا أنّ التعرّض لواحد من تلك الأفعال والانتقال من حيّز «السماع عنها» إلى حيّز اختبارها اختبارًا ذاتيًا يفتح الباب أمام مقاربة سياسيّة مختلفة وشعور أعمق بالنقمة والغضب المغلّف بالازدراء.
في رحلة غريبة ومكثّفة، قصيرة في زمنها، طويلة في آثارها دخلت غزّة التي يبدو للوهلة الأولى أنّها ثابتة لا تزال تتغيّر (أو يجري تغييرها) ببطء وانتقائيّة. التغيّرات عديدة والمشاهدات يمكن الاسهاب فيها إلى ما لا نهاية. لكن، ما سيجري سرده في هذا المقال ما هو إلا توثيق وشهادة منّي أنا، الفلسطيني المولود في غزّة والمرتبط بها ارتباطًا لا فكاك منه، لما حدث معي عصر يوم السّبت، الثامن من حزيران على كورنيش البحر.
كنت متواجدًا في مطعم الديرة مع صديقة مقرّبة من غزّة وتمّ الاتفاق على أن نتحرك، معًا، إلى مطعم آخر يبعد عن الديرة مسافة لا تزيد عن 150م للاجتماع مع أصدقاء آخرين كانوا في انتظارنا. بعد دفع الحساب خرجت أنا وصديقتي إلى الشّارع العام (ركّز على كلمة «عام») ومشينا نحو المطعم الذي ينتظرنا فيه أصدقاؤنا. في العادة ولأسباب أمنيّة مفهومة تتواجد دوريّة مكونة من 5-6 أفراد بشكل شبه دائم في نقطة كاشفة في تلك المنطقة. بعد مروري وصديقتي أمام أفراد الشرطة الرابضين على الكراسي أشار لي أحدهم بالتوقف، قام من كرسيّه واقترب منّي وبدأ يتحدث إليّ.
سؤاله الأوّل كان: «مين البنت الي معك؟». جوابي كان: صديقتي. الكلمة أثارت غضبه. ربّما لا يفهم هذا الموكل إليه مهمة «حفظ الأمن» أنّ الصداقة حالة انسانيّة يمكن لها أن تنشأ بين شاب وصبيّة. وجّه كلامه لصديقتي وسألها، بنبرة بطريركيّة مقيتة، إن كان والدها يعلم أنّها خرجت معي. طبيعة الأسئلة وطريقته في طرحها كانت كلها تدفع في اتجاه الاعتقاد بأننا، أنا والصبيّة، قد اقترفنا جريمة أخلاقيّة من الطراز الأوّل، في حين أننا كنا نمشي في الشارع العام!
بعد أخذ ورد، وارتفاع صوتي وصوت الشرطي، ورفض صديقتي إعطاءه رقم والدها وشرحي له بأنني مقيم في مصر، بدأ الشرطيّ يتحدث عن اصطحابي إلى مركز شرطة العبّاس القريب للتحقيق معي وعمل اللازم. عندما سألته: هل لأنني كسرت قانونًا أم أنّ هذا «فعل فردي» آخر؟ أجابني، وبكلّ برود: نعم، هذا فعل فردي و«هو هيك». الحادثة التي استمرّت قرابة 20 دقيقة دفعت كثيرين من المارين للتجمع حولنا. بعد قدوم بعض الأصدقاء من داخل المطعم الذي كانوا ينتظرونني وصديقتي فيه، وتدخّل بعض أبناء المنطقة، قرر الشرطيّ بأنه سيتركني في حال سبيلي هذه المرّة بعد أن حذرني قائلاً: ما تمشي في الشارع مع «بناتنا».
من المنصف والموضوعيّ القول بأن ما حدث معي في ذلك اليوم من تعدّ صارخ على الحريّة الشخصيّة واساءة استخدام للزيّ الرسميّ والسلطة الممنوحة لصاحبه يمكن أن يحدث مع أيّ شحص آخر في غزّة، في أيّ وقت وأيّ مكان. في حالتي، ولأسباب متعددة، انتهى الأمر (بشقّه المباشر) في نفس اللحظة. في حالات أخرى سابقة، وربّما لاحقة، يجري اصطحاب الشاب فعلاً إلى مركز العبّاس الذي غالبًا ما يتعرّض فيه للضرب قبل إجباره على إحضار ولي أمره في حين تتعرّض الفتاة لتعنيف من نوع آخر عبر الاتصال بأهلها وإعطاءهم محاضرات حول سلوك ابنتهم المشين.
في صباح اليوم التالي، توجهت إلى مكتب مركز الميزان لحقوق الانسان في حيّ الرمال الغربي بغزّة وسردت على مسامع محامي المركز ما حدث معي وقدّمت شكوى وكّلته لمتابعة تطوراتها. الشكوى، بطبيعة الحال، سيجري العمل على رفعها إلى مكتب وزير الداخليّة. المحامي أكّد أن حالات مشابهة عديدة تقع في أنحاء القطاع وأنّ القلة القليلة التي تقرر اللجوء إلى مؤسسات حقوقيّة وطنيّة وتقدم شكوى سرعان ما تسحبها إما لعدم اقتناعها بجدواها أو خوفًا من أي اشتباك مطوّل مع السلطات في غزّة.
في معرض التحليل يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها أنّ هذه التصرفات التي يقدم عليها المنتسبون لأجهزة الحكومة الأمنية ما هي الا مخرجات متوقّعة لتصريحات وزير الداخليّة فتحي حمّاد التي أكد فيها أنّ غزة مدينة محافظة ولا مساومات في «منسوب الرجولة» فيها. هذه الأوامر غير المكتوبة وغير الرسمية يتلقفها أفراد الشرطة باعتبارها غطاءً سياسيًا يؤهلهم للتدخل في اللحظات التي يقررون هم فيها أنّ تدخلهم مطلوب سواء كان الأمر يتعلّق بشاب وفتاة يمشون في الشارع، أو تسريحة شعر، أو بنطال ضيّق. بديهيًا، ليس ثمّة أي غطاء قانوني لكلّ هذه التعديات (ولو كان فيجب إلغاؤه فورًا) والحالة القَبليّة التي تعيشها وزارة الداخلية في غزّة تضمن للشرطيّ مقترف الفعل النجاة دون أية محاسبة حقيقيّة.
أمّا إدانة تلك التصرفات، واعتبارها فعلاً قمعيًا رجعيًا بامتياز، فيتفق على ذلك كثيرون، وإن بنسب مختلفة. من ضمن رافضي تلك التصرفات أبناء مخلصون لحركة المقاومة الاسلاميّة. إبّان حملة البناطيل الضيّقة وتسريحات الشعر كتب براء نزار ريّان على صفحته على الفيس بوك ما أيّدته الكاتبة المقربة من حماس لمى خاطر بأنّ الحملة غير المستندة على أي سند تشريعي ما هي إلا «جريمة يعاقب عليها القانون». واعتبر الغطاء القانوني، إن هو تواجد، «هبلاً وفضاوة». الرجل تحدّث بلغة متّزنة وكان لما كتبه أثر طيّب على نفوس كثيرين وأنا منهم.
ما يجب أن تفهمه حماس، والحكومة التي تديرها حماس، هو أنّ أهل غزّة ليسوا رهائن ولا نسخ مكررة من قالب واحد. هذا المجموع الانسانيّ البديع الذي حوصر عامًا بعد الآخر كي يثور على حماس ويطلّق البندقية صبر وتحمّل وأبدع في محاربة الحصار، وانتصر على العالم بأسره، ومن انتصاره -انتصار الشعب- جاء انتصار حماس، لا العكس. لو كنت أنا قياديًا حمساويًا عاملاً في الحكومة لكان شاغلي اليوميّ هو كيف أدلّع هذا المجموع الانسانيّ وأردّ له الجميل. هذه التوليفة البشريّة الممتدة من رفح حتى بيت حانون، محزبين وغير محزبين، متدينين وغير متدينين، هذه التوليفة هي الانتصار الحقيقي والضمانة بأن تظلّ غزة شوكة في حلق كلّ من يخطط للاساءة لها أو لمن فيها.
كتبتُ سابقًا، وأكتب اليوم، أنّ غزة التي وقفت في وجه العدوان الاسرائيليّ لا يمكنها أن تسقط في معركة الحريّات الشخصيّة، أقلّه دون قتال. الدعوة واجبة للجميع، لكلّ من يتعرض لفعل قعمي حكومي، أن يتوجه لأقرب مؤسسة حقوقيّة ويوثّق ما حدث معه ويبعث بشكوى. إن كان ذلك غير كافٍ (وهو بالفعل كذلك) فواجب علينا، جميعًا، التفكير في آلية أكثر نجاعة للتعامل مع هذه السلطويّة. لابدّ من معاقبة أفراد الشرطة الذين يتعدون على المساحة العامّة وعلى حق الفرد في الاختلاف.
ختامًا، سأقتبس ما كتبه بلال نزار ريّان وأضعه برسم كلّ أعضاء حماس، كل أعضاء حكومتها، وعلى رأسهم وزير الداخليّة الذي يبدو أنّه لا يقدّر قيمة الناس ولا يحترم اختلافهم. كتب بلال: لا أحب أن أعيش منفصمًا، أحبّ أن أعبر عن أفكاري بهدوء و أحترم كل مخالف؛ هذا خير لي من العيش مع النفاق و الانهزام الداخلي. الحريّة للأفكار. الحريّة للانسان.