لو أردنا قياس نجاح مؤسسةٍ إعلاميّةٍ ما فإن المقياس الأبرز هو حجم الجمهور الذي استطاعت جمعه حولها بالمحتوى الذي تقدمه، وهو ما يعكس غالباً قدرتها على إثارة اهتمام الجمهور ونَيل رضاهم وربما ثقتهم، ولا يرتبط حجم الجمهور بالنجاح المعنويّ فقط بل الماديّ أيضاً، فالجمهور الكبير يجذب المُعلنين ويزيد من سعر الإعلانات التي تعتبر مصدر الدخل الأساسيّ لمعظم وسائل الإعلام الربحيّة.
وبالعادة فإن القائمين على وسائل الإعلام يُوضعون بين مطرقة المصلحة العامّة والأخلاقيات وبين سندان ما يريده الجمهور، والذي يتباين أفراده بمستوياتهم الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة والفكريّة، مما يصعّب مهمّة رؤساء التحرير والكُتّاب والمنتجين في نَيل اهتمام أكبر عددٍ منهم.
ومما لا شكّ فيه أن الإثارة بمختلف أنواعها وأشكالها تجذب الجمهور أكثر وأسرع من أيّ شيءٍ آخر، وتنشر شعبيّة الوسيلة الإعلاميّة بين جموعهم كما تنتشر النار في الهشيم، وعلى الصعيد الإخباريّ فأشكال الإثارة تتنوّع بين الفَوز في سباق نشر الأخبار العاجلة والمستجدات، وطرح المواضيع الجريئة والمثيرة للجدل، وتمرير الآراء مهما تطرّفت دون سقفٍ أو حدود، بالإضافة إلى التهويل والتضخيم والتلوين والعزف على الأوتار الموقِظة للقلاقل والفتن وغيرها.
وإن لم تمنع القوانين والتشريعات بعض هذه الأشكال فالمواثيق الأخلاقيّة والأعراف المهنيّة كفيلةٌ بتحريم ما تبقّى، ليظلّ أبغض الحلال من بقايا فائضةٍ بالمحاذير والجَدَل، والذي لطالما أثارته الكثير من وسائل إعلامنا المحليّ.
فحرمان فلسطينيي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة من امتلاكهم لوسائل إعلامٍ يعبّرون فيها عن أنفسهم لربع قرنٍ من الحكم العسكريّ، فجّر الأثير بموجةً كاسحةٍ من المحطات الإذاعيّة والتلفزيونيّة التي ظهرت فجأةً كطفرةٍ في حياتهم أواسط التسعينات، وبكوادر دون خلفياتٍ أكاديميّةٍ متخصصةٍ في أغلب الأحيان.
وتلك الكوادر من الجيل الأول الذي حمل على عاتقه بناء الإعلام الفلسطينيّ وتطويره من خلال التجربة والفراسة، هيّأ الطريق أمام الأجيال اللاحقة من خريجي كليّات الصحافة والإعلام ليكملوا الطريق التي بدأها من سبقهم، ويضعوا بصماتهم في هذه المسيرة.
إلا أن عدم استقرار الوضع السياسيّ وشُحّ الموارد والتبعيّة للجهات المموّلة من تنظيماتٍ ومُعلنين وجهاتٍ أجنبيّةٍ، بالإضافة إلى قلّة الكفاءة والمعرفة والوعي الكافي لدى كثيرٍ من القائمين على هذه الوسائل، أخرجها عن خطّ سيرها المهنيّ والأخلاقيّ، ليصبح الهدف جمع الجمهور والعوائد الماديّة بأي طريقةٍ أو ثمن.
وكثيرٌ من الصفحات والمواقع والإذاعات والقنوات التلفزيونيّة تجاوزت الخطوط الحُمر بقصدٍ أو غير قصد، فعدم الفصل بين الانتماء السياسيّ الشخصيّ للقائمين على هذه الوسائل وعملهم الصحفيّ حوّل الإعلام لأسلحةٍ للدعاية الهجوميّة والتحريض والاغتيال الشخصيّ وسكب مزيدٍ من الوقود على نار الانقسام، وإنشاء وسائل إعلامٍ لتكون دكاكين لالتهام التمويل الأجنبيّ جعل بعض هذه الوسائل منابر لنشر الأفكار الهدّامة للقِيَم التي تُمثّل أغلب شرائح المجتمع وفئاته دونما اعتبار، وقلة الوعيّ بدور الإعلام الحقيقيّ والجهل بقواعده المهنيّة والأخلاقيّة عند كثيرٍ من الصحفيين ومقدمي البرامج حوّل الوسائل التي يعملون بها إلى خليطٍ من الفوضى المليئة بالانتهاكات والتخبّطات والمخالفات، لتصبح الميكروفونات والأقلام والكاميرات أدواتٍ لتصفية الحسابات وتغذية الخصومات وفضح الخصوصيات وهدم المجتمعات.
وعلى المواطن أن يقرّر ما إن كان يريد مصلحته أو متعته، وأن يختار بين اتّباع هُداه أو هواه، وأن يميّز بين الموضوعيّة والمصداقيّة والاستقلاليّة وبين التلوين والتزوير والتبعيّة، فليس الجميع قادراً على حمل الأمانة، وإن كانت الأرقام معياراً لنجاح وسيلة الإعلام، فليعلّمنا الناجحون كيف نكون صحفيين؟