يُمكن القول، دونما مُبالغة أو إدعاء، أنّ الكيّان الفلسطيني الذي تأسس عام 1994 بِمباركة أمريكيّة وصهيونيّة وعربية رسميّة، وأُطلق عليه إسم (السلطة الفلسطينيّة)هذا الكيّان الهجين الرّخو والتابع لإدارة الاستعمار الصهيوني، سَقَط مشروعه المفترض وانهار سياسيًا وشعبيًا، وحصد فشلاً ذريعًاخاصة بعد أن تكشّفت حقيقته وطبيعة جوهره الفاسد أمام الأكثرية الشعّبية الفلسطينية الساحقة في الوطن والشتات.
الأكثرية الشعبية المُعذّبة والمُغيبّة والمقصية التي تقف أمام تحدٍ كبير، يتمثّل في إطلاق روح المشروع الثوري التّحرري البديل، وهي تُدرك في أعماقها أن هذا الكيّان الفلسطيني الفاسد في رام الله وغزّة، هو التجسيد الفعلي لمشروع التصفيّة والخديعة الكبرى التي حذّرمنها الأديب الشهيد غسّان كنفاني في زمن مضى.. وبعبارة أدق: كيّان أوسلو هو التجسيد الأمنيّ والسياسيّ والاقتصادي والثقافي لمشروع التّصفية.
نشأ كيان أوسلو أو سلطة الحكم الإداري الذّاتي المحدود إذا شئتم، داخل الغُرف المُظلمة برّعاية دوائر الإستخبارات الغربيّة، المخابرات الأمريكيّة على نحو خاص، وليس صحيحاً أن الادارة الامريكيّة لم تكن تعلم بجولات التفاوض في أوسلو كما يدعي رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ولكن هذه قصة أخرى!
لقد جاء هذا الكيان - السلطة - مشروعاً هجينًا وعجيباً لا يُعبّر عن طموحات وأهداف الشعب الفلسطيني، ليس لأنه جاء من خارج الشرّعية الشعّبية الفلسطينيّة، ومن خلف ظهر كل المؤسسات الوطنية وحسب، بل لأنه أيضاً جاء كيّانا هشاً مهزوماً سَلفاً أعدّه مُعسكر العدوّ الذي إستطاع من خلال " إتفاق أوسلو " أخذ القلعة الفلسطينيّة من الدّاخل دون قتال!
وقد يكون مهماً التذكير في هذا المقام أنه في أول جلسة " مفاوضات" سرّية بين الوفد الفلسطيني، والوفد الصهيوني، في العاصمة النرويجية أوسلو، كان الوفد الصهيوني برئاسة أوري سافير أما الوفد الفلسطيني برئاسة أحمد قريع (أبو العلاء)، فقال الأخير لسافير " نحن وضعنا صعب في المنظمة ولا مناص لنا إلا الاتفاق معكم"، كان أبو العلاء يشكو حظّه لسافير ويكاد يتوسل إليه تقريبًا، فاستغرب سافير من الموقف، إذ كيف لمفاوض أن يكشف كل أوراقه ومواطن ضعفه وقلة حيلته، هكذا، دفعة واحدة ؟
إتصل سافير فورًا مع شمعون بيريز ، فارسل بيريز إلى المحامي الصهيوني المعروف يوئيل زينجر، وهو محامي إسرائيلي أمريكي وطلب منه أن يتوجه الى أوسلو .
بعد 30 ساعة من المحادثات عاد زينجر والتقى مع بيريز، وقال له حَرفيا " شيمون، اذا لم نصل لاتفاق مع هؤلاء سنكون بهائم " حَرفيا ، قال له" بهائم " وهكذا اعتبرها العدوّ الصهيوني فرصة تاريخيّة.
لذلك أيضاً يقول بيريز إن ما حققه الكيان الصهيوني على المستوى الاستراتيجي وما حصل عليه في أوسلو ، يُضاهي أو يفوق تأسيس دولة "إسرائيل" في العام 1948. وهذا هو السبب ذاته الذي جعل قادة الصهاينة يقولون ففي العلن: كنا في أوسلو نفاوض أنفسنا !...
لقد وافقت قيادة منظمة التحرير على النصوص، التي كتبها زينجر، وأن يكون كيّان أوسلو له وظيفة أمنيّة، واقتصادية مُحددة، ومنصوص عليها في متن الاتفاق، فإذا إلتزم الطرف الفلسطيني، يُمكنه تأمين إمتيازات طبقيّة لشريحة فلسطينية تكون شريكاً للإحتلال، هذا بالضبط معنى "التنسيق الأمني"، و "السلام الاقتصادي"، الذي ترجمه العدوّ واقعاً على الأرض!.
إن كلمة " دولة فلسطينية " لم تُذكر ولا مرّة واحدة، في ثمانية اتفاقيات وقعتها قيادة م ت ف مع "إسرائيل"، ومنذ البدء كان من الواضح أن كيان أوسلو أصبح جزء من بنُية النظام الإستعماري، والنظام العربي الرّسمي، وسيعمل في إطار المنظومة الأمنيّة الاسرائيلية داخل ما يسمى "المناطق في يهودا والسامرة ".
وإنتقل كيان أوسلو تدريجيًا خلال العقدين الأخيرين إلى موقع الخصم للشعب الفلسطيني، قفز من موقع المُهَدِدْ للقضيّة والمشروع الوطني التحرري الفلسطيني، إلى موقع الأداة التدميرية الشريكة للكيان الصهيوني، في ذبح وتقطيع الجسم الفلسطيني من الداخل، إنه ذاته مشروع التصفيّة مجسدًا في كيان وظيفي عميل، يجري توظيفه في خدمة أمن وإقتصاد العدّو الصهيوني، ومصالح القوى الإمبريالية والرّجعية في المنطقة.
ومن المفيد التذكير هنا، حين كان شعبنا في فلسطين المحتلة عام 48، يخرج في تظاهرات شعبية واسعة ضد مصادرة أرض النقب ، أصدرت منظمة التحرير تحت الضغط الشعبي بياناً تدين فيه "مشروع برافر "، ثم عادت وسحبته ونفت الخبر ! وذلك لأن الضابط الصهيوني، كما نتصور، الذي إتصل مع مقر المقاطعة، سألهم : النقب أين حسب الاتفاقيات الموقعة بيننا ؟ في إسرائيل أم في يهودا والسامرة ؟
ربما من الأهمية بمكان تذكير أنفسنا أيضًا بحقيقة أن الشعب الفلسطيني، ليس الشعب الوحيد الذي تتعرّض حركته التحررية في مواجهة الاستعمار إلى مثل هذه الانتكاسات، والتحدّيات الدّاخلية الحارقة والكبيرة، وتخونه قيادته وتطعنه في ظهره وترمي بحقوقه وأحلامه إلى دوائر الخطر والتصفية لتؤمن إمتيازاتها الطبقيّة الضيّقة.
حركات السود والسكان الأصليين في نيوزليندا، واستراليا، وكندا، والولايات المتحدة، وغيرها عاشت التجربة ذاتها، ولنقرأ تجارب الجزائر والكونغو، وهايتي، وناميبيا، وغيرها.
لقد حدث هذا أكثر من مرّة في العديد من مناطق ودول العالم، في أمريكا اللاتينية، وجنوب أفريقيا، والهند، وايرلندا، تعرضت شعوب وحركات تحرر وطنية قاومت الاستعمار الاستيطاني، إلى فترات هزيمة صعبة ومعقدة ومتشابهة، كما حدث في فلسطين غير أن الشعوب كانت تستعيد عافيتها، وطريقها الوطني وخيارها الشعبي الديموقراطي، وتولد القوى الثورية مع أجيال جديدة وتسترد الحركة الثورية دورها وموقعها، وتستأنف مشروعها الوطني التحرري من جديد.. وتنتصر.
كيّان الواسطة .. وحِزام أمنيّ :
يبحث الإستعمار دائماً عن واسطة محليّة تتحدّث لغة السكان الأصليين، فتكون بمثابة الحزام الفاصل بينه وبين الشعوب، وتتحمل إدارة مجتمعاتهم وشؤونهم بعيدًا عن "المركز" المقرر، فالقوة الإستعمارية المُهيمنة على الأرض تظل قوة غريبة عن سكانها المحليين وأهلها، فهي لم تأت لتقيم علاقة إنسانية أو تتواصل ثقافياً وحضارياً، مع الجمهور الخاضع لسيطرتها بقدر ما تبحث عن القوة، والسيطرة، والهيمنة، والثروة، والتوسع والاحتلال، ولو عبرالمجازر وأنظمة العزل والفصل والتهميش والحصار.
ومن الطبيعي إذن، والحال هو الحال، أن يفتش الإستعمار عن آليات واقعية ومنظومة إقتصادية، وثقافية، واعلامية، وأمنية، تضمن له السيطرة ويحل من خلالها "الإشكالية / العقدة " فيستجلب المُستعمِر جزء من النخبة المحليّة "الوطنية "، من أصحاب المصالح، وكبار العملاء، والوسطاء، والوكلاء، والتجار الكبار، والواجهات القبلية والعشائرية، وقادة الأحزاب التقليدية، يستجلبها من داخل المجتمع نفسه، يسمح لها بتشكيل سُلطتها وكيانها المحلّي مقابل تأمين إمتيازاتها الطبقية، ومعها بالطبع توفير أدوات القمع المتعددة أيضاً، الخشنة والناعمة، العصا والجزرة، الهراوة والدولار، السجن والمقمرة، المنع و" التصاريح" عبر بوابة التنسيق الأمني، ومختلف وسائل وأدوات التجهيل والتعميه، وهذه المهمة سيقوم بها جيش من المثقفين المرتزقة من خدم السلطة الساقطة.
إن الكيان المحلّيّ التابع يقفز كالجندب بين وظيفة الوكيل/ العميل في البلد المُستعَمَر، وبغض النظر عن التسمية التي يمنحها له المحتل، يظل مُرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بِحبل المصير المُشترك، مع مرجعيته صاحب السلطة الحقيقية "حيث يقف الدولار" كما يقول المثل الإنجليزي، وعليه، فلا يمكن إلا أن يكون كيّاناً هَشاً وتابعاً وهجيناً، فاسدًا ومُلحقاً، تماماً مثل كيان "الواسطة الفلسطينية" الذي يقف كالشرطي البائس بين الجماهير وبين الإحتلال، ودائما يعمل لمصلحة كيان الاحتلال ووكلائه..
لذلك ايضاً يجد السلطوي الفلسطيني نفسه في مأزق مستمر، إنه عالق بين مطرقة الضغط الشعبي من جهة و بين سندان وشروط الإحتلال من جهة أخرى، بين مطالب وصرخات الطبقات الشعبية المعذبة، التي يتجاهلها أو يقمعها يومياً لأنها تطالبه بوقف "التنسيق الأمني"، وهذه تًشّكل الحاضنة الشعبية للمقاومة (السلطة الشعبية البديلة المفترضة )، وبين الجهة الرّاعية له التي تضمن بقائه وتحمي إمتيازاته وتطالبه بالمزيد من الولاء والطاعة والانكشاف، هذا هو السبب الذي يجعل محمود عباس يتذمر من المقاومة ومن "ترامب" و"نتنياهو" في وقت واحد .. وفي نفس الجملة أحياناً ! !
يلعب فريق أوسلو دور الواسطة الوكيلة بين الجمهور الفلسطيني والاحتلال، لكنه أدمن في الوقت ذاته تمثيل دور الضحية المَغلوبة على أمرها، الضحية التي تدّعي أن لا أحد يفهمها أو يقدّر ظروفها، وهي وحدها التي تفهم وتعرف أكثر من كل الناس و"صاحبة المشروع الوطني ودمها عرفاتي خالص"، كما يقول الضابط جبريل الرجوب!!
في الحالة الفلسطينية، فإن الواسطة تشبه صورة المختار الفلسطيني التقليدي الجاهل، الذي أراد ان "يُصلِح" يوماً ما بين الناس في القرية وبين ضباط "الإدارة المدّنية"! وسواء ارتدى الواسطة "دِماية" وكوفية وعقال، أو بدلة أوروبية وساعة ثمينة تلمع، أو إعتمر وأطلق لحية وتعمم سيظل في الجوهر، وكيلاً كريهاً وهباشاً صغيراً، يعمل في خدمة البترودولار والاحتلال، وسيأتي دائماً على صورة " أبو الخيرزان " في رواية غسّان كنفاني ورائعته الملحمية " رجال في الشمس.".
أمام هذا الواقع السيّاسي والإقتصادي المُركب الذي بات يُدركه شعبنا جيداً وبالتجربة الحية، تبرز الأسئلة التالية:
ما هو بديل السلطة الفلسطينية وكيانها الفاسد في رام الله وغزّة ؟ أين القوى والحوامل السياسيّة والإجتماعيّة التي ستحمل هذا المشروع الثوري النقيض؟ من يصنع البديل الثوري الوطني الدّيمقراطي في الوطن والشتات وكيف نصل إليه؟
إن هذه الأسئلة الحارقة، وطابعها جماعي وفردي، لا يمكن لفرد أو فريق واحد أن يجيب عليها، بل تحتاج إلى جواب عملي ،ونضال ميداني وفكري وسياسي، وجهود وطنية وجماعية تنطلق من الحوار الجاد، لإستنفار طاقات شعبنا وحماية الحقوق الوطنيّة للشعب الفلسطيني، وبالتوازي معها الإعداد الصارم لإطلاق المقاومة الشعبية المسلحة والشاملة وبمشاركة شعبية واسعة، الشرط الأساس لتحقيق الهدف وصنع البديل الثوري على طريق التحرير والعودة.