ما حدث مع نتنياهو حين مرّ يوم الأول من يوليو/تموز 2020 دون اتخاذ أية خطوة "ضميّة" حتى لو شكلية، يجب أن يُرى على أنه هزيمة مدوية لنتنياهو. وما ينبغي عدم رؤيتها هكذا بسبب التأكيدات التي صدرت حول موضوع التأجيل أو الإرجاء، وأنه سيعمل لاحقاً للمضي بالخطة.
أكثر المتوقعين لموقف نتنياهو من تنفيذ وعده، وتعهده، وتصميمه على تنفيذ الضم في الأول من يوليو/تموز الجاري، توقعوا التنفيذ ولو جزئياً.
أما أن يتراجع، بالصورة التي تراجع بها، أي من دون أن يأخذ أية خطوة، مهما كانت صغيرة أو شكلية، فقد سقطت من الاحتمالات، ناهيك عن تغليبها احتمالاً. الأمر الذي يفرض أن يسأل كل من يتعاطى بالتحليل السياسي: ما الذي أُغفل حتى أسقط سيناريو التراجع من الحساب؟
صحيح أن اعتبار الضم، ولو الجزئي، واقعاً، كان إيجابياً من الناحية العملية والتعبوية، بل أفاد من الوصول إلى هزيمة نتنياهو، لكن هذا شيء ودقة التوقع شيء آخر. وليس من المفروض أن يتناقضا. لأن من شروط توقع فشل نتنياهو، هو التأكيد على التعبئة الكاملة، والموجهة من أجل هزيمته المتوقعة بدورها، إذا أحسنا الحساب.
ما حدث مع نتنياهو حين مرّ يوم الأول من يوليو/تموز 2020 من دون أن يتخذ أية خطوة "ضميّة" حتى لو كانت شكلية، يجب أن يُرى على أنه هزيمة مدوية لنتنياهو. وما ينبغي عدم رؤيتها هكذا بسبب التأكيدات التي صدرت حول موضوع التأجيل أو الإرجاء، وأنه سيعمل لاحقاً للمضي بخطة الضم.
يعني أننا أصبحنا أمام السؤال: هل هو هزيمة وارتباك أم هو إرجاءٌ إرادي، وسيليه فوراً سعي حثيث لتنفيذ الضم قضماً جزئياً؛ ابتداءً بالأغوار وهو التحدي الأبرز؟ أم نحن إزاء توجهات أخرى يفرضها هذا الفشل؟
السياسة لا تحكمها الرغبات أو المصالح، كما هو شائع، وإنما تحكمها موازين القوى والقدرات. وهذه بدورها هي التي تحدد حجم المصالح، وكيفية تأثيرها في السياسة. وهنا فلنأخذ موضوع الضم ونتنياهو حالة تطبيقية.
رغبة نتنياهو ومصلحته ومصلحة الكيان الصهيوني، من حيث الأصل، والمجرد، تؤكد الذهاب إلى الضم وتحقيقه. وهذا جزء من المشروع الصهيوني الذي قام على أساس اقتلاع كل الشعب الفلسطيني، واستيطان كل فلسطين.
ولكن الذي فرض على الكيان الصهيوني وقياداته وحلفائه الدوليين الاكتفاء بخطوط هدنة 1949 (خطوط ما قبل يونيو/حزيران 1967) ولمدى امتد إلى حرب 1967، كان ميزان القوى وليس الرغبات والأهداف. فالذي جعل المصلحة، أو المصالح، تنحصر ما بين 1949 و1967 في "حدود" خطوط الهدنة كان ميزان القوى بأبعاده المختلفة، وكذلك القدرات بأبعادها المختلفة.
وكذلك قبل مجيء ترمب وإعلانه لما يسمى "صفقة القرن" (جريمة القرن) لم يكن نتنياهو يطرح موضوع الانتقال إلى ضم الأغوار وأجزاء أخرى من الضفة الغربية، كما فعل خلال الشهرين الماضيين، ولا سيما شهر يونيو/حزيران المنصرم. ومن ثم لا تفسير لذلك سوى تقديره أن ميزان القوى العام يسمح له بالإقدام على هذه الخطوات، وذلك بعد أن مرّ بسلام إعلان دونالد ترمب للقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها.
وعليه، ما الذي جعله من بعد تعهدات عالية الصوت وعهود قاطعة لا ينفذ في الأول من يوليو/تموز الجاري عمليته للضم؟
تتطلب الإجابة هنا البحث في ميزان القوى العام لتفسير هذا التراجع، والذي هو بمثابة هزيمة مدوية، تكشف عن حجم الخلل في ميزان القوى العام في غير مصلحة ترامب- نتنياهو. فها هنا تصادم هذا الخلل في ميزان القوى العام مع الرغبات والمصالح، ومع القدرات "المجردة" المحصورة بالقوة العسكرية التي يملكها الجيش الصهيوني.
وكانت النتيجة أنْ تراجَعَ نتنياهو تراجعاً مذلاً له. ولم يفعل ذلك إلاّ بسبب الخوف من خسارة أكبر وهزيمة أفدح إذا ما دخل معركة الضم، والمواجهة مع الشعب الفلسطيني أولاً، ثم ثانياً مع ميزان القوى العام متعدد الأبعاد، ولا سيما من جانب الضغوط التي مارستها أوروبا، وخصوصاً بريطانيا (أساس مشروع الكيان وعرابته)، ثم ما حدث من انقسام أمريكي، وزعزعة في قرار إدارة ترمب نفسها، بالنسبة إلى الضم والمخاطر التي قد تنشأ في حالة تنفيذه. وهذا كله عكَسَ نفسه على الداخل الصهيوني حيث علت التحذيرات التي تحذر نتنياهو من الإقدام على هذه الخطوة. طبعاً من دون أن يقلل هذا من الضغوط الأخرى الدولية وغير الدولية.
وبالمناسبة الذين ضغطوا على نتنياهو من حكومات الغرب بالتراجع عن تنفيذ الضم ولو جزئياً، ما فعلوا ذلك بسبب رغباتهم، أو ضد مصالح الكيان الصهيوني الحريصين عليها، وإنما خوفاً عليه، وحذراً من معركة لا قِبَل لهم ولا له بها إذا ما اندلعت. فميزان القوى هنا أيضاً بأبعاده المختلفة وصل إلى حد فرض تلك الضغوط على نتنياهو، وفرض عليه هزيمة سياسية ومعنوية أهون شراً من هزيمة ميدانية.
هذا ما كان يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند تقدير الموقف في تغليب احتمال تراجع نتنياهو. ولكن الأهم هو الذي يجب أن يوضع، الآن، في الاعتبار لمواصلة المعركة من جانب الفلسطينيين. وذلك لا ليمنعوا نتنياهو من أن يعيد الكرة مرة أخرى فحسب، وإنما أيضاً أن يعالجوا السبب الرئيس الذي جعل نتنياهو يأخذ قرار الضم، ويأخذ قرار الاستيلاء الأمني على المسجد الأقصى، وهذا ما زال مستمراً. أي الاحتلال والاستيطان.
ما دام احتلال الضفة الغربية قائماً، وذيول اتفاق أوسلو مستمرة، ولو جزئياً، فإن الضفة تحت خطر استشراء الاستيطان والضم، وما دام شرقي القدس تحت الاحتلال سيظل خطر التهويد وتقسيم الصلاة في المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه قائماً ومستمراً.
لهذا فإن موازين القوى العامة التي فرضت على نتنياهو هذا التراجع المذل، ولم تسمح للصهاينة في أمريكا والغرب الأكثر منه صهيونية، بأن يذهبوا إلى الضم، يجب أن تدفع الفلسطينيين أن يستمروا بتوحيد موقفهم من الضم و"صفقة القرن" لينتقلوا إلى قيادة موحدة، تفتح ملف الاحتلال والاستيطان في الضفة وشرقي القدس من حيث أتى.
وذلك باعتبارهما المؤديين للضم والاستمرار، أو للعمل من أجله من قِبَل ترمب ونتنياهو، وهما في الأساس غير شرعيين، وجزء كبير من معارضي الضم يعترفون بعدم شرعيتهما.
فإذا تشكلت قيادة موحدة أو عند اللزوم، تقاطع الفلسطينيون جميعاً على ضرورة مواجهة الاحتلال والاستيطان في الضفة والتهويد لشرقي القدس، باستخدام أشكال المقاومة، وفي مقدمها الانتفاضة الشاملة، فإن موازين القوى العامة نفسها تقريباً ستسمح بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، أي بتحرير الضفة الغربية وشرقي القدس، وبلا قيدٍ أو شرط.
هذا هو المطلوب والممكن تحقيقه في هذه المرحلة، لا لتقام دويلة، ولكن ليحرر جزء من أرض فلسطين، تكون تمهيداً لاستراتيجية تحقيق الهدف الأسمى: تحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر.