شبكة قدس الإخبارية

تفكر بدراسة الصحافة والإعلام؟

155
مصطفى بدر

مع امتلاء رأسك بأصوات الزغاريد وأبواق السيّارات والمفرقعات وربما بِضعُ طلَقات، وما رافقها من قُبُلاتٍ خاطفةٍ تتجاهل الكورونا وتتهاوى على خدّك مثل الغارات، وتلك التهاني التي تزاحمت داخل أذنَيك فاختلطت مع كلّ ما سبق لتُتخِم دماغك الذي ما عاد قادراً على التفريق في تلك اللحظات من الفرح والفَرَج، فإنك أنت من ستسلّط عليه الأضواء من الآن وصاعداً، وستكون خطوتك القادمة التي ستُحدّد مستقبلك محطّ أنظار الجميع وإرشاداتهم، ويُطلّ السؤال الذي فرض نفسه فجأةً كعنوانٍ للمرحلة، والذي مهما سعيت في صقل إجابته خلال الثمانية عشر سنةً الماضية من عمرك أو حاولت الهرب منه فإنه سيعود لك: "ماذا ستدرس؟"، ومهما حاولت الاستقلال بقرارك –إن كانت لديك الحريّة- عزيزي ناجح الثانويّة العامّة، فإن إجابتك لن تسلم من الاقتراحات والنصائح والاستشارات والقَمع والتنمّر والانتقادات.

وإن كان قلبُك قد ابتُلي بحبّ مهنة المتاعب، ورأيت نفسك منتصباً أمام الكاميرا أو متمترساً خلفها، أو استسغت صوتك وهو يؤنس قلوب الركّاب والسائقين والساهرين عبر موجات الراديو القصيرة، أو أنك رأيت في قلمك سِلاحاً ينصر الضعفاء والمظلومين ويحارب الجهل ويفضح الفاسدين، فإنّ عليك التمهّل لأن حلمك سيلقى حرباً شعواء طالما كان اختيارك غير تلك التخصصات الذهبيّة التي في نظر المجتمع تجلب المال والجاه كالطبّ والهندسة والمحاماة إن كانت درجاتك أقلّ.

وأكبر الحواجز أمام ناجحي الثانويّة العامّة الراغبين بدراسة الصحافة والإعلام هو تلك الإحصائيات المخيفة عن نسبة البطالة الأعلى على مستوى فلسطين بين صفوف خريجي هذا التخصّص، لتكون أوّل عقبةٍ تحبط عزيمة من اتجهت أنظارهم نحو دراسة هذه المهنة، وتكون أولى أسباب اعتراض الأهل الراغبين بحياة كريمةٍ ومستقبلٍ واعدٍ لأبنائهم في هذا الوطن الذي لم يعرف الاستقرار يوماً.

وإن ألقينا بنظرنا على مؤسساتنا الإعلاميّة فسنجد أن كثيراً منها عبارةً عن مكاتب شبه خاوية، وأجهزة حاسوبٍ قديمةٍ متهالكة، واستوديوهاتٍ استوطنت شباك العناكب في زواياها، ليغادرها موظفوها وتبقى بعض هذه الصروح التي لم تُغلق بَعد شاهدةً على عصرٍ يكاد يرحل دون أن ينبُت فيه حسٌّ جديٌّ للبقاء، بعد هذا الزلزال الرقميّ الذي أدرك الصحافة قبل أن تُدركه، ليهجر البشر الصحف والمجلات وأجهزة التلفاز والمذياع التي ملكت حواسّهم يوماً ما، ويُصبحوا عبيداً لتلك الشاشات الصغيرة التي باتوا صنّاع الحكاية فيها، وبات المواطن هو من ينقل الخبر قبل الصحفيّ، وهذا ما أبعد المُعلنين وأوصل وسائل الإعلام إلى الإفلاس أو حافته بعد أن أصبح مصدر دخلها الرئيسيّ مُهدّداً.

وعلى الرغم من الأزمة التي حلّت بالمؤسسات الصحفيّة على الصعيد العالميّ وخاصّةً الورقيّة منها، بعد أن سلبت مواقع التواصل الاجتماعيّ والهواتف الذكيّة جمهورها، فإن هذه المؤسسات لازالت متعطّشةً لدماءٍ جديدة متحمسةٍ تخرجها من هذه النكسة، لتواكب عجلة القطار الرقميّ الذي سبق كلّ شيءٍ في طريقه.

وأزمة المؤسسات الصحفيّة في فلسطين لا تقتصر على الأزمة العالميّة الناتجة عن تغيّر عادات القراء فحسب، فالطفرة الإعلاميّة التي برزت مع قدوم السلطة الفلسطينيّة، والتي تمثّلت بإنشاء عشرات الدوريات المطبوعة والمحطات الإذاعيّة والتلفزيونيّة المحليّة، كَرَدّ فعلٍ طبيعيّ على سنواتٍ من قمع الحريّات التي مارسها الاحتلال في وطنٍ كان يزخر بميراثٍ صحفيّ فريد في النصف الأول من القرن العشرين. وتلك الطفرة التي قادتها الطبقة المثقّفة التي عانت الكبت والمنع والملاحقة والاعتقال في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وإن تمتّعت بالثقافة العالية والحسّ الوطنيّ الصادق والعزيمة التي لا تكلّ، فإنها لم تمتلك الإمكانيات الكافية لرسم سياساتٍ اتصاليّةٍ تلقى اهتمام الجمهور المحليّ بشكلٍ كافٍ أمام زحف المحطات الفضائيّة التي استوطنت بصحونها اللاقطة أسطح أغلب البيوت.

وإن كانت الموجة الأولى من التجارب الإعلاميّة بعد أوسلو قدّ فشلت، فإن انتفاضة الأقصى عام 2000 أحدثت طفرةً كبيرةً في عمل وسائل الإعلام العربيّة والأجنبيّة في فلسطين، وخلقت فُرصاً كبيرةً برواتب عاليةً في الوسط الصحفيّ، والتي حظيّت بها القلّة القليلة من خريجي تخصّص الإعلام في حينه وكُثُرٌ ممّن لم يدرسوه، لكن ما لبثت أن تلاشت هذه الطفرة مع استقرار الأوضاع في فلسطين، ليبدأ النسيج الإعلاميّ بعدها بالتمزّق مع تزايد قمع الحريّات بعد الانقسام الفلسطينيّ وما تلاه، وعدم وجود مهاراتٍ كافيةٍ لدى طواقم وإدارات المؤسسات الإعلاميّة للتماشي مع الفيضان الرقميّ، فتبقى المؤسسات غريقةً بحاجةٍ إلى الكفاءات اللازمة لإنقاذها.

فإن كنت من الراغبين بدراسة تخصص الصحافة والإعلام، فعليك أن تمتلك الرغبة والطموح أولاً وقبل كلّ شيء، وأن تعي مفهوم هذه المهنة وأركانها قبل أن تخوض في غمارها، وتدرك أن وظيفة الإعلام ليس الإخبار فقط، بل التثقيف والترفيه أيضاً، وأن عمل الصحافة لا يقتصر على السياسة التي وإن كانت الشاغل الرئيسيّ لجمهورنا، فلازالت المؤسسات متعطّشةً لصحفيين اقتصاديين وثقافيين ورياضيين واجتماعيين وغيرهم، وأن مهمتك لن تكون مجرّد صانع للمحتوى، بل محارباً لأجل بقاء مؤسستك وتطويرها واستمراريتها، ولتجد عملاً فإن عليك أن تبذل مجهوداً كبيراً، وأن لا تملّ من السعيّ وأن تتوسّع أكثر بكثيرٍ مما ستتعلمه بالجامعة، وتنهل بلا مللٍ من حقول الثقافة والعلم والمهارات التقنيّة والفنيّة المختلفة، وأن تعي أنك بامتهانك هذه المهنة فإنك تدافع عن ثلاث: المصلحة العامّة، والوطن، والقيَم والدين والأخلاق، وأن دورك سيكون في إنارة الطريق للمجتمع وتبديد الشائعات والحفاظ على السلم الأهليّ والحقوق، وعلى عاتقك يقع دورٌ كبيرٌ في إصلاح هذا المجتمع وإرشاد أبناءه، فهل أنت مستعدٌ للعب هذا الدَور؟