لا شك في أن موقف الرئيس محمود عباس وحركة فتح في رفض سياسات الرئيس الأمريكي في ما يتعلق بالقدس ونقل السفارة الأمريكية، وما تسمى بـ"صفقة القرن"– جريمة القرن، أسهم في وحدة الموقف الفلسطيني في رفض هذه السياسات الإجرامية بحق القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ولكن هذا الرفض يُعتبر، على أهميته السياسية، أقل الواجب وما ينبغي له أن يُعامَل باعتباره كافياً للرد على تلك السياسات، وما يتبعها من قرارات ضم، أعلن نتنياهو بأنه سيأخذها قريباً.
وكذلك الأمر النسبة إلى موقف محمود عباس وقيادة فتح من إنهاء العلاقات التي ترتبت على اتفاق أوسلو مع حكومة نتنياهو، بما فيها الإعلان عن وقف التنسيق الأمني. ولكن ثبت عملياً أن كل ذلك لم يكن ملموساً ومجدياً، بل شجّع نتنياهو أكثر على إعلان البدء بضم الأغوار والمستوطنات، مما يؤكد أن مواقف الرئيس الفلسطيني وقادة حركة فتح، لم تؤثر شيئاً في إحباط سياسات ترامب- نتنياهو، أو الحيلولة دون المضي قدماً في تطبيق الضم.
ولهذا فإن أمام قادة حركة فتح ورئيسها أحد خيارين: إما التنحي جانباً عن تحمل المسؤولية عما تتعرض له القضية من تصفية، والضفة الغربية والقدس من ضم، وذلك لإفساح المجال لفصائل المقاومة والقوى الحية من أبناء الشعب الفلسطيني، لتشكيل وحدة وطنية واسعة، تطلق انتفاضة شعبية شاملة تزلزل الأرض تحت أقدام المستوطنات والاحتلال، ولا تسمح بالضم واستمرار الاحتلال.. وإما أن تتوقف فتح ورئيسها عن السياسات غير المجدية في مواجهة ضم المستوطنات والأغوار وتهويد القدس، ومحاولة السيطرة على المسجد الأقصى، ومن ثم العمل مع قادة الفصائل والشعب لتشكيل وحدة وطنية وشعبية، تحت قيادة مشتركة تنتقل إلى الانتفاضة والمواجهة والعصيان المدني والمقاومة. وهو ما يستطيع ليس الإطاحة بسياسات ترامب- نتنياهو في الضم فحسب، وإنما أيضاً دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة والقدس، بلا قيدٍ أو شرط.
لقد وصل الوضع إلى حد لم يعد من الممكن المضي أكثر بسياسات محمود عباس: رفض صفقة القرن ومعارضة الضم، ولكن في الوقت نفسه منع الوحدة الوطنية ومنع الانتفاضة والمواجهة، مما يجعل الرفض بلا فاعلية، أو من دون تأثير في منع وقوع الجريمة.
لم يعد من الممكن المضي أكثر بسياسات محمود عباس: رفض صفقة القرن ومعارضة الضم، ولكن في الوقت نفسه منع الوحدة الوطنية ومنع الانتفاضة والمواجهة، مما يجعل الرفض بلا فاعلية، أو من دون تأثير في منع وقوع الجريمة
إذا كانت تلك السياسات قد أطالت من عمر سلطة رام الله والتعايش مع الاحتلال، بل وحمايته من خلال التنسيق الأمني، فإن ما يجري على الأرض من ضم القدس والانتهاكات للمسجد الأقصى، ومن خطوات لضم المستوطنات والأغوار، يجعل تلك السياسات اليوم أخطر من حماية الاحتلال والاستيطان، وأخطر من محاربة المقاومة والانتفاضة؛ لأنها ستؤدي إلى ضم الضفة الغربية وتهويد القدس، وتهديد وجود المسجد الأقصى. فاتفاق أوسلو تنازل عن 78 في المئة من فلسطين، وهيّأ الأرض لاستيطان الضفة وتهويد القدس. لهذا، فإن سياسة الاكتفاء بالرفض، ومنع قيام وحدة وطنية تحت قيادة موحدة، وعدم إطلاق انتفاضة؛ سيؤدي إلى ضياع ما تبقى من فلسطين.
بكلمة، لم يعد أمام الرئيس محمود عباس وحركة فتح غير حل السلطة وإنهاء كل ما له علاقة باتفاق أوسلو وتبعاته، والدعوة إلى اجتماع للقيادة الفلسطينية، المشكّلة من الأمناء العامين أو من ينوب عنهم، في عمان أو دمشق أو بيروت أو القاهرة، ومن ثم إعلان تشكيل وحدة وطنية دون التفات إلى ما حدث في الماضي من انقسامات وخراب داخلي، ومن ثم الانتقال إلى الشارع والمواجهة لمنع الضم تحت شعارين لا ثالث لهما، وهما دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من الضفة الغربية والقدس، وبلا قيد أو شرط. وبعد ذلك لكل حادث حديث.
فلا يُفتح موضوع الانقسام، ولا الدولة، قبل أن تحرر الأرض، تحرر الضفة والقدس، بلا قيدٍ أو شرط، أو مفاوضة أو مساومة. فلا الاحتلال مشروعا، ولا الاستيطان مشروعا، ولا ضم القدس واحتلالها مشروعا. ولا يجوز أن يُكافأ الاحتلال مقابل جريمته، وإنما عليه أن يرحل كما رُحِّل من قطاع غزة، ومن جنوبي لبنان، وكما اندحر العدوان العسكري عن قطاع غزة في ثلاث حروب، وبلا قيدٍ أو شرط.
هذان الهدفان وحدهما ومنع الضم يمكن أن يتفق عليهما الجميع وتحقيق أوسع وحدة وطنية. أما الدولة في حدود ما قبل حزيران/ يونيو 1967، فموضوع خلاف، وكذلك العودة إلى ميثاق 1964 و1968 موضوع خلاف مع الذين يتبنون "حل الدولتين" أو "حل الدولة الواحدة". وكذلك فإن قضية التحرير الكامل من النهر إلى البحر والعودة الكاملة، موضوع خلافي مع "حل إلغاء نظام الأبارتايد"، ناهيك عن الاستراتيجية ما بعد دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات.
المهم أن الرئيس محمود عباس وقيادة فتح لم يعد بإمكانهم، ولا ينبغي لهم، السير على السياسيات نفسها التي طبقت ما بعد اتفاق أوسلو حتى الآن. ولم يعد بإمكانهم أن يتعايشوا تحت سلطة رام الله في ظل ما سينفذه نتنياهو من ضم؛ لأنهم حتى من وجهة نظر ما أعلنوه من "مشروع وطني" يدخلون في محظور التواطؤ والخيانة، إذا ما فرطوا وتركوا الضم يمضي بلا مواجهة حقيقية.
ولهذا فإما أن يختاروا الرحيل أو أن يختاروا المواجهة. ولا خيار آخر من تعايش تحت سلطة فقدت كل مبرر لها، وإن لم يكن لها، كما ثبت، من مبرر أصلاً.
صحيح أن نتنياهو يواجه ضغوطاً هائلة دولية وصهيونية داخلية، تحذره من الإقدام على الضم، إلاّ أنه يجد صعوبة في التراجع المذل له. ويعتقد بأن الظرف الراهن مناسب للضم، بوجود ترامب وسلطة رام الله، الأمر الذي سيدفعه إذا قرر التراجع إلى أن يأخذ خطوة ضمٍ ما حفاظاً على ماء الوجه. وهو ما يجب ألاّ يُسمح له بتمريره، مهما "صغر" حجمه؛ لأنه سيكون خطوة ستجر خطوات. هذا مع تذكر أن ضم القدس ما كان يجب أن يمر، لولا سياسات محمود عباس وقيادة فتح في الرد الضعيف عليها. فمن هنا ما ينبغي لأية خطوة ضم يتخذها نتنياهو أن تمر بلا انتفاضة، وانفجار الشارع الفلسطيني.
أما من جهة ثانية، فعلى قادة الفصائل فيما الضم يدهم القدس والضفة، أن يعلنوا الوحدة الوطنية والانتقال إلى الانتفاضة، بموافقة محمود عباس ومشاركة فتح. فهذا الخط قد استُنفد، أيضاً، ولم يعد من الممكن الاكتفاء بالمطالبة بإنهاء كل علاقة مع اتفاق أوسلو، أو الدعوة لإنهاء الانقسام والعودة إلى المصالحة، أو إعادة بناء م.ت.ف، أو مطالبة البعض بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني أو إنهاء السلطة. فالوضع يوجب خطوات أخرى سريعة غير قابلة للانتظار.
أصبح لزاماً على قادة الفصائل الفلسطينية أن يدعوا إلى لقاء قيادة على مستوى كل الأمناء، سواء أحضرت قيادة فتح أم لم تحضر (طبعاً حضورها أفضل وهو مطلوب). ولكن لم يعد من الممكن رهن هذا اللقاء على حضورها، أو على مباركة محمود عباس له، الأمر الذي يوجب أن يُصمم قادة الفصائل على اللقاء.
لقد أصبح الظرف يتطلب تشكيل وحدة وطنية فلسطينية عاجلة، بوجود فتح أم بعدم وجودها، لمواجهة إطلاق انتفاضة شعبية شاملة، ضد سياسات الضم، ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. ولتكن البداية بإعلان الأول من تموز/ يوليو إضراباً عاماً يشمل كل فلسطين، ينطلق من الضفة الغربية، ويشمل قطاع غزة، ويؤيَّد من فلسطينيي الـ48، ومن فلسطينيي الخارج في العالم أجمع.
إن البدء في الإضراب المفتوح يعني أولى خطوات الانتفاضة الشاملة، فنزول الجماهير إلى الشوارع، هو الرد العملي والممكن، لمواجهة الاحتلال والاستيطان، وإسقاط قرارات الضم.
وبالمناسبة، إن سياسات الضم وما أعلنه ترامب من سياسات تعطيان الانتفاضة كل مسوغات انطلاقتها، وتجعلان ميزان القوى العام في غير مصلحة ترامب– نتنياهو. ولعل أول دليل على ذلك، ما لاقته من عزلة دولية أوروبية وروسية وصينية، وهيئة أمم ورأي عام عالمي، فضلاً عن إجماع شعبي عربي وإسلامي.
إن انطلاق انتفاضة شعبية في القدس والضفة الغربية، وبمشاركة فلسطينية واسعة، مدعومة عربياً وإسلامياً، وتضع هدفها منع الضم ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. ولتفرض ذلك فرضاً بجعلها انتفاضة شاملة طويلة الأمد، سوف تضع ترامب ونتنياهو في الزاوية، بل ستضع الاحتلال والاستيطان في الزاوية. وستتحول المعركة إلى معركة إرادة وصبر وتضحيات وطول نفس. ولا حل لها ولا خلاص، مما ستولده من أزمة سياسية فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، إلاّ بدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط. وما ذلك ببعيد، إن شاء الله.
عربي21