يدخل الفلسطينيون في أزمة اقتصادية هي الثالثة، في وقت قصير. فقد بدأت الأولى في شباط/ فبراير من العام 2019، حينما رفضت السلطة الفلسطينية استلام أموال المقاصة (الأموال الضريبية التي تجبيها "إسرائيل" لصالح السلطة وفق الاتفاقيات الموقعة بينهما)، بعد اقتطاع "إسرائيل" من تلك الأموال ما يساوي مخصّصات الأسرى وذوي الشهداء التي تدفعها السلطة الفلسطينية. عادت السلطة عن قرارها، في تشرين الأول/ أكتوبر، في حين استمرّ الاحتلال في سطوه على أموال الفلسطينيين بالطريقة نفسها. وفي الأثناء لم تتمكن السلطة من دفع رواتب كاملة لموظّفيها، الذين تدور برواتبهم عجلة اقتصاد الضفّة الغربيّة.
بدأت الأزمة الثانية مع جائحة كورنا، مطلع هذا العام. شلّت الجائحة اقتصاد الضفّة الغربيّة، وبما ينعكس على دخل السلطة الفلسطينية، ثمّ ما كادت السلطة تخفّف من قيودها على حركة السكان، حتّى قرّرت الانسحاب من الاتفاقيات الموقّعة مع "إسرائيل"، وبما يشمل مجمل علاقات التنسيق بينهما، بما في ذلك استلامها أموالها الضريبية المستحقّة لها من الاحتلال، وهو ما يعني أزمة اقتصاديّة ثالثة عامّة تشمل السلطة نفسها والمواطنين، وضغطا مباشرا على كلّ فرد فلسطيني. وفي المقابل، وإمعانا في النكاية، يخصم الاحتلال تعويضات لبعض عملائه، من أموال الفلسطينيين تلك.
اتخذت السلطة قرارها الأخير، ردّا على مشروع الحكومة الإسرائيلية المعلن لضمّ مناطق واسعة من الضفّة الغربيّة لـ"إسرائيل". وبما أنّ القرار لم يكن مفاجئا، وظلّ يترسّم في العيان منذ سنوات، وتفصح عنه الهندسة الاستعماريّة بلا توقّف، وتكشف عنه تصريحات "إسرائيلية" متتابعة، ومهّدت له إدارة ترامب بسلسلة قرارات خطيرة وصريحة، فإنّه لا يمكن القول إنّ ردود فعل السلطة أفضل الممكن، أو أحسن ما يقنع الفلسطيني العادي المنغرس في أرضه، والمنغمس في همّه، والذي يملك حدسا سياسيّا رفيعا توقّع به هذه اللحظة من سنوات بعيدة.
وحتّى لا نرجع إلى الماضي كثيرا، كان بوسع السلطة الفلسطينية أن تبدأ في سلسلة إجراءات متدرّجة، بالاستناد إلى الشعب وقواه، وبعد أن ترفع ثقة الفلسطينيين بها، منذ كانون الأول/ ديسمبر 2017، أي منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل". لكن المراوحة في المكان، مع سياسة تدوير المناورات نفسها، بقيتا تطبعان سلوك السلطة السياسي.
يعيدنا ذلك إلى الفلسطيني العاديّ، المتوقّع منه تحمّل كلفة هذه السياسات في إسناده لقرار قيادة السلطة الانسحاب من الاتفاقيات الموقّعة مع "إسرائيل"، بما يترتب عليها من مسّ عميق لعصب حياته اليومي، غير أنّه يجد أن قيادته لم تُطْلعه على استراتيجيتها منذ اتخاذ ذلك القرار، ولا على خطواتها المفترض تعاقبها في تلك الاستراتيجية، ولا يلحظ تغيّرا في الواقع ينبئ عن احتمالاتِ تحوّل جذريّ في السياسات المتبعة تجاه الاحتلال، فالساحة على حالها، بما فيها من نمط سلطويّ معهود، وغياب للفعل النضالي، وإخراجِ المصالحة الفلسطينية حتّى من التداول الخطابي. هذه الأسباب وغيرها، تجعل القدرة على اكتساب ثقة ذلك الفلسطيني في قرارات السلطة ضئيلة.
والحال هذه، ولو سلّمنا بجدّية السلطة في قرارها الانسحاب من الاتفاقيات الموقّعة مع الاحتلال، (مشكلة الجدّية ليست في النوايا فحسب، وإنّما في كون الاستمرار في السلطة بشكلها الراهن بذات الأدوات لا يمكن أن يتيح لها انفكاكا عن الاحتلال)، فإنّ السلطة في رفضها استلام أموال المقاصة، تريد الظهور منسجمة مع قرارها بالانسحاب من تلك الاتفاقيات، بما يشعر الفلسطيني العاديّ بجدّيتها، وهو غير متحقّق، كما سلف بيانه، وتريد الضغط على الإسرائيلي للتراجع عن قراره بالضمّ، ربما بتخويفه ضمنا من انهيار السلطة بفعل الشلل الاقتصادي، وما يمكن أن ينجم عنه من فعل كفاحيّ فلسطينيّ شعبيّ واسع، وهو أمر محلّ نقاش.
يفترض في خطوة يعاني منها الفلسطينيّ العاديّ بالدرجة الأولى، أن تكون مندرجة في استراتيجية كفاحية تفرض المعاناة في المقابل على الإسرائيلي. ولا سبيل للقول إنّ خطوة السلطة يمكن أن يحتويها سياق من هذا النوع، فلا هي أوضحت لشعبها استراتيجيتها المفترضة، ولا هي تفرض المعاناة على الإسرائيلي. فلا وجود لأيّ مظهر مقاومة تسمح به السلطة، أو يقوده حزبها (حركة فتح) المتمتع بالحرية الكافية للعمل، وإلا فإنّه لا ينبغي أن يكون هناك خلاف على طبيعية المعاناة في ظلّ الاحتلال جرّاء كلفة مقاومته، بيد أنّ الطبقة الحاكمة في السلطة لطالما صرّحت أنّها لا تؤمن بمقاومة تستدعي كلفة عالية، كما أنّها في الواقع لا تمهّد لمقاومة كهذه، ولو في حدود المقاومة الشعبيّة.
وإذا انحصرت المعاناة في الفلسطيني، فيصعب تصوّر تراجع الإسرائيلي عن قراره، طالما أنّه لا يعاني، هذا فضلا عن استكماله القرار في مفاعيله الواقعية، وظلّت القانونية فحسب. ويضاف إلى ذلك، أنّه وفي حين يعاني موظفو السلطة اقتصاديّا، فإنّها لا يمكنها منع الفلسطينيين من العمل في الداخل المحتلّ، الذي يُطلق عليه "إسرائيل"، بعدما صار تعاملهم المباشر مع الاحتلال متاحا لاستصدار تصاريح الوصول للداخل المحتلّ. وأمّا خوف الإسرائيلي من انهيار السلطة، فبعيد، بعدما استعدّ جيدا لمعالجة لحظة من هذا النوع، أو لأنّه مدرك لعدم الجدّية، لو عدنا عن التسليم بها.
وما دامت السلطة لا ترغب في تحوّل نحو المواجهة ولو في مستوى محدود، يبقى الممكن، والحال هذه، تعزيز صمود الفلسطيني في أرضه، وهو أمر لا يتأتّى بتحويل الضفّة الغربية إلى بيئة طاردة، بإدخاله في أزمات اقتصادية متتابعة، وإبقائه فريسة القلق على رزقه ومعيشة أسرته، كما أنّه لا يتأتّى بالاستمرار في النهج السلطوي نفسه، وكأنّ شيئا لم يتغيّر!
في الأصل تنبثق شرعية السلطة عن كونها وليدة الحركة الوطنيّة، وخطوة نضالية مؤقّتة وعدت الفلسطينيين بالارتقاء إلى دولة ضمن مسار تسوية مع الاحتلال. وبصرف النظر عن كلّ ما يمكن قوله عن هذه العبارة، فإنّه لم يتبق منها إلا الأمر الواقع وتسيير أمور الفلسطينيين، طالما أنّ مشروع التسوية انتهى إلى هذا الفشل المدمّر، وشرعية الواقع والتسيير لن تبقى على حالها إذا لم تراع السلطة الواقع نفسه، من فشل مشروعها، واعتمادها على الفلسطيني العاديّ في قدرتها على البقاء بدلا من تعزيزها صموده.
ثمّة حلّ مثاليّ، بتحويل تدريجيّ لوظيفة السلطة في إطار وحدة وطنية أعلى، كما تحدّث عن ذلك كثيرون. وإذا كان هذا الحلّ غير ملائم لنخبة السلطة، فيبقى أن تراعي في سياساتها، وهي لا ترغب في المواجهة، تعزيز صمود الفلسطينيين، وأن تجري قدرا من التحوّل في مسلكها السلطوي، وإلا فمعاناة الفلسطيني لا ينبغي أن تكون إلا في سبيل فرض المعاناة على الاحتلال.
عربي21