القيمة الحقيقية لأي فعل أو تحرك سياسي في الحالة الفلسطينية، هي في اتصالها الحقيقي مع نقاط الاشتباك، يعبد اليوم هي عنوان للاشتباك مع الاحتلال، لا بحكم التأثير المباشر لحجرها الذي أرهب جنوده وقتل احدهم.
بل وبحكم تحولها لصورة كاشفة عن محاولات الترهيب الصهيوني، الاعتقالات، والترويع، وجر شبابها لغرف التحقيق، وفي مواجهة كل هذا صمود أهلها، هي بذلك تكثيف لفكرة ونموذج الاشتباك، مجتمع أخرج من يلقي حجر في عين "إسرائيل"، واجتهد في اخفاءه وحمايته، هذا هو مفهوم الحاضنة للمقاومة بمعناها الضيق.
لكن نحن، كل من هو خارج نقطة الاشتباك هذه الآن علينا أن نجد لأنفسنا موضعاً فيه، من موقع الإسناد أو التماثل المباشر مع الفعل، أي تقليد النموذج أو الدفاع عن صمود أهله ودعم هذا الصمود.
لتكسر "إسرائيل" يجب أن تلسعها الاف البراغيث وتتلقى مئات أو ربما الاف الهزائم الصغيرة، لكن إطلاق كل هذا يرتبط بقدرتنا على حماية نموذج مثل يعبد، علينا أن ننتصر في يعبد وهذا لن يكون إذا لم ننتصر الآن ليعبد من خلال كل فعل بوسعنا اقترافه.
هزيمة الهزيمة:
تنافح المنظومة التي أنتجتها "أوسلو"، ضد فكرة المواجهة مع الاحتلال، وتتكثف دعايتها وسياقات عملها ضد فكرة أو احتمالية الانتصار عليه، أي أنها تعمل لإسقاط أي نموذج لكسر سياسات الاحتلال من وعينا و إهماله وتهميشه، هذا حكم سلوك هذه المنظومة والنخب الفلسطينية تجاه نموذج غزة، والآن تجاه يعبد.
واجبنا الالتصاق والالتحام بكل نموذج للاشتباك، وحمايته من خلال تشكيل دروع أمامية وأخرى محيطة تدافع عنه، بما يصعب من مهمة إسقاطه، أو كسره، في الوعي أو على أرض الواقع.
وهذا لا يتطلب التصفيق أو التهليل والأسطرة، بل التواصل الحقيقي مع بيئة الاشتباك، ووضع كل الذوات والأدوات في خدمتها.
ليس علينا أن نتصرف كجمهور من المشجعين، ولكن كشبكة عصبية متصلة، تصبح فيها كل نقطة اشتباك رأس وعقل وعنوان وراية وخندق للمواجهة، نلتحق به وندعمه، ونسعى لتعميمه، الانغماس فيه، فلا يوجد رأس وحيدة وقيادة مركزية أو اجتماع أو تحالف سياسي سينتج لنا برنامجاً للفعل.
أملنا كمجموع بشري في التعلم من بعضنا كيف نواجه هذا العدو، وكيف نكسر أدوات ترهيبه لنا ونواجهها، وأن ندعم بعضنا في اللحظات الأكثر صعوبة في هذه المواجهة، لحظات البدايات واستعادة الذات وكسر حواجز القمع و التأديب.
إن تحررنا من مفهوم الرأس الوحيد والعقل المدبر الملهم الذي يمتلك حقائق الأشياء وخارطة طريق الانتصار، هو فعلياً و بمعاني مختلفة تحرر من هزيمة "أوسلو" وإعادة لذلك الدفق العصبي في شبكتنا الحيوية، في مجتمعنا وأحيائنا وأسرنا وجامعاتنا، أي أن اشارة كل منا للآخر هي "قاوم أنا معك".
هذا يشبه طرق الأسرى لأبواب زنازينهم، طرقات أولى يتبعها أخرى وأخرى حتى يصير ذلك الدوي الجماعي، وسماع معتقل في زنازين العزل الانفرادي لصوت من زنزانة مجاورة ينادي بأسمه، اصمد نحن معك نحن نعرفك، نحن نحبك، ندرك فعلك، ندرك وجودك وهذا الوجود يعني لنا الكثير.
الآن واجبنا أن نوصل هذا الصوت ليعبد، لا لتعزيز صمودها ولكن لكي لا ننكسر نحن.
في انتظار البيان رقم واحد: نحو الفعل:
تعفن الرأس الرسمي للحالة الفلسطينية، والنخب المحيطة به، يجعل من مقاربة الوحدة الوطنية الفلسطينية بوصفها تعبير عن مصالحة مع هذا الرأس، أو معارضة سياساته، تجنياً على أي فرصة لمواجهة العدو، حالياً أو مستقبلياً، فتردد قوى المقاومة في الترابط على نقطة اتصال واتفاق وتحريك بديلة، قد سمح للعدو باستثمار هذا التعفن في تقطيع شبكة تشغيل فعلنا الوطني، فيم استثمر الرأس العفن في ضخ اشارات الاستسلام وتحريك اذرعه بافعال القمع لكل فعل مقاوم.
هذا بمجمله سمح للعدو وحلفائه بحصار تجسد المقاومة المادي الملموس في قطاع غزة، وفي بنية فصائلية محددة، يجري ابتزازها بالاحتياجات الإنسانية الحيوية لسكان القطاع، و بإمكانية الانقضاض عليه بعدوان حربي واسع يدمر مجتمعه وبناه التحتية، ما خلق ظرف استحالة فعلية لبناء أو استعادة النموذج المتخيل لرأس فعلي أو حالة قيادية تدير نضالات الشعب الفلسطيني من قاعدة ما في غزة أو غيرها.
إن التحرر من فكرة الرأس المهيمن والقادر على إدارة كل أفعال المواجهة فضلاً عن خلقها أو توليدها من البيئات الفلسطينية المحاصرة بعوامل وأدوات الاخضاع والقمع، هو ايضاً تحرر من مثالب أساسية رافقت كل محاولات توسيع انتشار الفعل المقاوم.
فلا يمكن اليوم وفي ضوء هذه العوامل تخيل استعادة القدرة الفلسطينية الشاملة على المقاومة كعملية موجهة مركزيا بخطوط تنظيمية واضحة، ارتباط بما سبق وبكل ما وصلته الحالة الفلسطينية، من انكشاف أمني، وضعف للموثوقية السياسية للمكونات القيادية، وما وصله العدو من درجة عالية من الهيمنة الأمنية في معظم بيئات الامتداد الفلسطيني.
نقطة التحول المنشودة في حالنا، لا يمكن أن تكون قراراً يوقعه مسؤول أو إطار فلسطيني، ولكن في قراراتنا كمجموعات وأفراد، بالرهان على ذاتنا ومجتمعاتنا بمعناها الصغير والبسيط، كالحي والقرية والمخيم والمسجد وزملاء ورفاق التجارب السياسية أو المجتمعية، وفي هذا إن كل نقطة أو مجموعة تستعيد دورها وهويتها كنقطة اشتباك أو اسناد، تشكل بداية فارقة في عودة تدفق النبض، لإلى نقاط أخرى.
على بوابات المسجد الأقصى، وفي يعبد، غزة، مخيمات اللجوء، ومجموعات عملت في إطار مسيرات العودة، هي نقاط محتملة لاستعادة هذا النبض، شريطة أن نغادر جميعا نقاط الانتظار لتغيير مستحيل في الرأس، وتخيلاتنا حول رأس جديد سينمو فجأة وينتج لنا خطة للنضال، ففي ظل انعدام الفعل أو ضعفه تصبح استعادته ولو جزئياً أو نقطياً هي المسار المحتوم للعمل.
نحن كأفراد ومجموعات جسد هذا النضال و نقاط وخلايا شبكته القادرة على الاتصال ببعضها، وتجاوز الكثير من عجزنا و حماقاتنا الشخصية والجماعية، والتلاقي مع أي رأس سياسي، مرهون بمده لشرايين الاتصال لا الوصاية صوب كل نقطة صمود واشتباك، ومجموع علاقاته بها وما يقدمه لها.