شبكة قدس الإخبارية

ملاحظات واقتراحات على هامش كورونا

thumb (4)
هاني المصري

اتخذت الحكومة الفلسطينية إجراءات سريعة مقدّرة تمكّنت من محاصرة الوباء حتى الآن، ولكنها لم تتعامل بنفس الكفاءة مع جوانب أخرى، وخصوصًا الاقتصاد، ولا تزال تبدو مترددة في رسم الخطط المناسبة، لا سيما الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تجمع فيها ما بين العودة المتدرجة إلى دوران عجلة الاقتصاد، مع التمسك بأشد إجراءات الوقاية التي تضمن التباعد الاجتماعي في الشوارع والمواصلات وأماكن العمل ومنع التجمعات الكبيرة.

إذا أردنا محاكمة التجربة أوليًا، لأن الحكم النهائي لا بد أن ينتظر حتى الانتصار التام على الوباء، لا بد أن ننطلق من الظروف والخصائص والقدرات التي تميز فلسطين، فنحن نعيش في بلد محتل القرار فيه في النهاية للاحتلال، وأكبر دليل ما حصل بالنسبة إلى العمال الذين يعملون في الداخل واتخاذ الإجراءات التي تضمن سلامتهم، إذ خرقت دولة الاحتلال الاتفاق بخصوص بقاء العمال في الداخل لشهر أو شهرين، واتبعت سياسة عنصرية بحقهم وحق أهل القدس المحتلة وشعبنا في الداخل.

ومن الظروف كذلك أن الاقتصاد الفلسطيني ضعيف، وتابع للاقتصاد الإسرائيلي، وخدمي، ومن مصادره الدعم الخارجي الذي تناقص ووصل إلى أدنى مستوياته، وأن الجهاز الصحي هش، فإذا انتشر الوباء سنواجه فشلًا ذريعًا أكبر من فشل الأجهزة الصحية التي انتهى إليها في دول متقدمة، خصوصًا إيطاليا والولايات المتحدة.

رغم كل ما سبق، تمكّنا من محاصرة الوباء حتى الآن، لأسباب عدة: منها الاستجابة السريعة للحكومة، وتجاوب الشعب معها، وطبيعة سلالة الفيروس التي انتشرت في فلسطين، إذ أشار د. كمال الشخرة، إلى أن أعراضها أقل خطورة من الموجودة في دول أخرى مثل إيطاليا، إضافة إلى أننا بلد لا يتعامل بشكل واسع مع العالم الخارجي مثل إسرائيل، لذلك فإن قطاع غزة من أقل المناطق التي شهدت إصابات، وهذا أظهر أن للحصار فوائد وليس شرًا كله.

ومن أسباب عدم انتشار الوباء ما أشار إليه عدد من الأبحاث، منها أبحاث لعلماء أوبئة في جامعة تكساس، بأن البلدان التي لديها برامج تطعيم السل، درجة انتشار الوباء فيها أقل بعشر مرات من البلدان التي ليس لديها برامج هذا التطعيم.

كما أن نوع الطعام يلعب دورًا في درجة الانتشار، إذ يدرس حاليًا باحثون إسرائيليون هذا الأمر ليروا ما علاقة الطعام والعادات العربية بعدم انتشار الوباء بين العرب بشكل واسع مقارنة باليهود، رغم العنصرية التي مورست ضدهم من حيث عدد الفحوصات القليلة التي أجريت، خصوصًا في البداية، ومدى الصرامة في تطبيق إجراءات العزل والوقاية في المناطق العربية.

كما أن عدد المصابين الذي يقارب حتى كتابة هذه السطور 449 (120 إصابة في القدس)، و3 وفيات، من دون وجود أي حالات حرجة، يشجع على الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهي الجمع ما بين دوران عجلة الحياة الاقتصادية، واستمرار الحد الأقصى من إجراءات الوقاية والتباعد الاجتماعي، مع ضرورة التوسع في إجراء الفحوصات، ليس فقط للمخالطين، وإنما بشكل عشوائي لتحديث خارطة وجود الوباء ومنع انتشاره.

 

وكذلك فإن قيام إسرائيل منذ يوم الأحد الماضي بتطبيق المرحلة الأولى من تخفيف الإغلاق، التي تشمل 30%، بما في ذلك عودة العمل في قطاعات يعمل فيها حوالي 60% من العمال الفلسطينيين، سيفرض علينا – شئنا أم أبينا - تخفيف الإجراءات، ولكن علينا أن نقلل الأضرار من خلال تشديد إجراءات الوقاية، وفي أن نستفيد من حاجة إسرائيل للعمال لفرض شروط عمل وصحة تمنع أو تحد من انتشار الوباء.

وما يشجع على العودة التدريجية إلى الحياة الاقتصادية على مراحل، بحيث تقيّم كل مرحلة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، أن القضاء التام على الوباء لن يتم قبل التوصل إلى علاج ولقاح، أي بحاجة إلى وقت قد يصل إلى 18 شهرًا، وأن إمكانية موجة ثانية واردة جدًا، وهذا يعني أن الإغلاق التام أو شبه التام إذا استمر لفترة طويلة ستكون نتائجه وخيمة، ليس على الاقتصاد فحسب، بل ما يمكن أن يؤدي إليه من فوضى، وربما تصل إلى انهيار السلطة وفلتان أمني وتعددية السلطات، وهذا يساعد عليه أن الحكومة طلبت من الناس حجر نفسها في بيوتها من دون أن توفر لهم ما يحتاجونه مثلما فعلت الدول القادرة.

سأعرض فيما يلي مجموعة من الملاحظات والاقتراحات على أداء السلطة بهدف الاستفادة منها، والبناء على ما تحقق، وهي:

عدم تشكيل فريق وطني، بمشاركة ممثلين عن الضفة والقطاع والشتات، رغم المطالبة بذلك، وهذا كان يمكن أن يوفر فرصة للمشاركة في تحمل المسؤولية، واتخاذ القرارات وتنفيذها، بما لا يمس قيادة الحكومة.

عدم تحقيق الشراكة بين الحكومة والقطاعَيْن الخاص والأهلي، وهذه الثغرة لا تتحمل المسؤولية عنها الحكومة وحدها، بل أيضًا عدم تحمل القطاعين الخاص والأهلي المسؤولية وإطلاق المبادرات، والتعامل "بركة يا جامع"، وهذا لا يقلل من كل ما قامت به الحكومة والقطاعين الخاص والأهلي (أفراد وشركات وأحزاب ونقابات واتحادات ومنظمات أهلية) من أعمال وتبرعات ومبادرات، ولكنه لم يكن شاملًا ولا كافيًا ولا منظمًا من خلال مرجعية واضحة تمثل فيها القطاعات المختلفة بشكل فاعل وحقيقي، من خلال رؤسائها ومجالسها ونقاباتها وأحزابها، ومختلف أطراف عملية الإنتاج ومراكز الأبحاث والخبرة، بحيث تتبلور الرؤية العامة، وتوضع السياسات العامة والخطط، على أن تتولى هذه المرجعية الوطنية دراسة الآثار المترتبة على حالة الطوارئ وأشكال التصدي الجماعي لها.

إن البديل الذي اتبعته الحكومة لا يكفي على الإطلاق، فهي اكتفت بالاستشارات والاجتماعات المتقطعة والانتقائية، وتلقّي الملاحظات والاقتراحات والرسائل بالمطالب من القطاعات والأشخاص كل على حدة.

أعلن الرئيس حالة الطوارئ بحكم الصلاحيات الممنوحة له، وهذا كان مبكرًا وجيدا ومهما، ولكنه مدد الحالة لشهر آخر خلافًا للقانون الأساسي الذي ينص على أن تمديدها بحاجة إلى مصادقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي، وتبرير وزير العدل لهذه المخالفة غير مقبول بقولة إن الرئيس يحقق بالتمديد المصلحة العامة، فهذه وصفة يمكن أن تستخدم لتجاوز كل القوانين. فهناك بدائل عن تمديد حالة الطوارئ من خلال اللجوء إلى قانون الصحة العامة وقانون الدفاع المدني.

لا يوجد في القانون الفلسطيني شيء اسمه موازنة تقشفية. مع الإدراك أن السلطة لا تستطيع تعويض العاطلين عن العمل والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولكن إعطاء الأولوية لموظفي السلطة وانتظام رواتبهم، ولو على حساب الجميع، كان خطأ، فما دامت الحكومة طالبت الجميع تقريبًا بالجلوس في البيت، فعليها توزيع القليل الذي لديها بعدل.

تضم لجنة الطوارئ المركزية رئيس الحكومة ووزراء الوزارات السيادية وقادة الأجهزة الأمنية وممثل المحافظين، وهذا معقول ويمثل الحكومة، شرط أن يشكل الفريق الوطني المذكور آنفًا، الذي سيتكامل معها بما يحقق الشراكة بقيادة الحكومة.

هناك ملاحظات كثيرة أثيرت على لجان الطوارئ في المدن والقرى والمخيمات رغم ما قامت به من أعمال جيدة مشكورة، وهناك تجاوزات عديدة ارتكبها أفراد منها.

فما المرجعية القانونية التي استندت إليها، وما الأسس والمعايير التي تحكمها، وما علاقتها بالمحافظين والأجهزة الأمنية، ولماذا تشكلت في كل منطقة بصورة مختلفة عن الأخرى، حيث توجد البلديات في بعض اللجان وغير موجودة في أخرى، ولماذا سمح لأشخاص غير جهات الاختصاص بالتدخل بحركة وحقوق الناس، والمرور وفتح وإغلاق المحلات وجمع التبرعات وتوزيعها من دون أولويات وأسس ومعايير واضحة وملزمة، ومن خلال إقامة "الحواجز الشعبية" (المختلفة عن حواجز السلطة) على حد قول أحد المحافظين؟

 

ولماذا تهيمن حركة فتح على هذه اللجان تقريبًا بالكامل، لدرجة أن مصادر أفادت أن بعض المحافظين أصدروا تعميمات بأن عضويتها يجب أن تقتصر على حركة فتح، وإذا شارك أحد من الفصائل الأخرى والمستقلين يكون وجوده شكليًا، وأين المرأة والتنوع  المجتمعي بشكل عام؟

أما إذا كان الأمر يعود إلى حاجة الأمن إلى متطوعين، فهنا يبرز سؤال: أين عشرات الآلاف من أفراد الأجهزة الأمنية؟ وإذا كانت هناك حاجة بعد استنفاد العدد المتاح، ليصار إلى فتح باب التطوع للجميع، وتنظيم هذه المسألة بشكل قانوني، وعدم السماح لأي كان بالتدخل في حقوق وحريات وتنقلات المواطنين، وفتح وإغلاق المحلات غير الجهات ذات الاختصاص وضمن الأصول المراعية للإجراءات؟

طبعًا، لا يشمل ما سبق قيام المبادرات واللجان والحواجز في القدس والمناطق المصنفة (ج)، وتلك غير المسموح للسلطة العمل فيها.

كان ولا يزال من الممكن إصدار قانون بالمسؤولية الاجتماعية يفرض على المؤسسات والشركات، خصوصًا الكبرى، المساهمة بنسبة معقولة من أرباحها للعام الماضي، كما يمكن إقرار ضريبة كورونا على كل المقتدرين، إضافة إلى ضرورة مساهمة الأغنياء بسخاء من أموالهم الخاصة، وليس فقط من الشركات المؤسسات العامة التي يديرونها.

إن السماح بإرجاع الشيكات وعدم دفع القروض بشكل جماعي، بحيث شمل القادر وغير القادر، أوصلنا إلى وضع صعب، ومطالبة رئيس سلطة النقد المسؤولة عن القرار بأنها تدرس الحالات القادرة على تغطية الشيكات ولم تفعل لمحاسبتها، فأنتم من وفرتم لهم هذه الإمكانية، وعليكم مراجعة هذا القرار.

سقط الجميع، وخصوصًا طرفي الانقسام اللذين أكثر همهما تبادل الاتهامات واللوم المتبادل، والمطالبة بالحصص ما يزيد الوضع سوءًا؛ في اختبار مواجهة كورونا فيما يتعلق بتوفير عمل مشترك لمواجهة الوباء كان يمكن أن يكون مدخلًا لإنهاء الانقسام، وما حدث أن الوباء عمق الانقسام بدلًا من أن يكون مدخلًا لإنهائه.

القدس لا بد أن تأخذ اهتمامًا أكبر، وكذلك شعبنا في الشتات، وتحديدًا في مخيمات سوريا ولبنان.

تستحق مسألة الضمان الاجتماعي، التي برزت اليوم الحاجة الماسة إليها، أن تكون من ضمن الأولويات، ولكن بتجاوز كل الأسباب التي أدت إلى فشل التجربة السابقة.

إن الأولوية بعد التقشف حتى الحد الأقصى مفترض أن تكون لدعم القطاع الصحي والزراعة والصناعة، خصوصًا في المجالات الصحية والزراعية والتكنولوجيا، ودعم القدرات والمهارات، لا سيما للمؤسسات المنتجة التي استمرار عملها يحرك السوق ويحدّ من البطالة، إضافة إلى دعم الفقراء والعاطلين عن العمل، والمناطق المهددة بالمصادرة والاستيطان والتهويد، وإعادة النظر بالنمط الاستهلاكي، والتخلي عن نهج الليبرالية الجديدة التي أضاعت المال والعباد والبلاد، إلى جانب التركيز على توفير مقومات الصمود، والتقدم في معركة الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال، وإنجاز العودة والحرية والاستقلال.