ثمّة تجارِب للمناضِلين الثوريين داخل السجون تشكّل إحدى أهمّ مصادر القوة الأخلاقيّة التي تستمدُ منها حركة الشعوب وقوى التحرّر طاقة ثورية متجددةً لا تفنى داخل "قلاع الأسر" وخارجها، إنها مدارس ثوريّة في السِياسة والأخلاق معًا، وينابيع للإبداع والإلهام والتأمّل يغرف منها الأدباء والكتّاب والفنانون والمؤرّخون، فكلّ سيرة نضاليّة تصيب المجتمع بأَسره وتؤثر فيه تأثيرًا عميقًا إذا تحرّرت الحكايات والرّسائل من السجن في تلك "الكراريس" و"الكبسولات" المُهرّبة الى الفضاء الرّحْب نحو الميادين والشوارع والمدارس والأزِقّة والمقاهي بعيداً عن زنازين العزل وصناديق الصمت الضيّقة.
وقديماً قيل: للأفكار أجنحة لا تحبسها الأقفاص الحديديّة ولا تحتاج إلى جواز سفر!
إنها تلك النماذج الاستثنائية التي يتحوّل فيها الأسير إلى "عتّال يوميّ" يحمل على كتفيْه كلّ القضية الوطنية وصفات "الأسطورة" و"الرمز" و"جنرال الصبر" بكلّ ما تختزنه هذه الأوصاف والأسماء من مسؤولية إضافية ملقاة على كاهله، فإذا قدّم نموذجاً ثوريًا وامتدّت فترة السجن الى سنوات وعقود، تحّول في عيون الشعب الى النموذج والبوصلة الأخلاقية في تكثيف لمعنى الحرّية وقِيم الصمود والتضحية والإيثار ، وإنّ الأسماء والتجارب كثيرة لا حصر لها ولا تقتصر على "نيلسون مانديلا" و"موميا أبو جمال" و"العربي بن مهيدي" و"جورج عبد الله" و"أوسكار لوبيز ريفيرا" و"أحمد سعدات" الى المناضل الأسير كريم يونس الذي يدخل عامه السابع والثلاثين في سجون العدّو الصهيونيّ.
لكلِّ أسير/ ة قصة تروى وتُشكّل حجرًا إضافيًا في مداميك وقلعة التجربة النضالية للحركة الوطنيّة الأسيرة لأنها دروس تتلاقي وتتفاعل في إطار حركة تحرر وطنية وفي مواجهة عدّو واحد داخل ساحة مشتركة، كجداول الماء التي تأتي من كل الجهات ثم تصب معاً في مجرى النهر.
منذ اللحظة الأولى للأسر ينتقل المناضل الى ميدان معركة جديدة تترك آثارها على حياة الأسير وعلى عائلته ودائرته الأولى في القرية والحيّ والمصنع والمخيم.
وتظل الكلمة المكتوبة الموثقة للمناضلين المبدعين من الكتاب والأدباء والمثقفين (الأسرى) الشاهد على تاريخ ونضالات الشعب، كما يظل لإنتاجهم الأدبيّ والثقافيّ ومؤلفاتهم السياسيّة والأكاديميّة والفنيّة فعّاليتها القصوى على "الخارج" وتحديدًا على الطليعة الوطنية من جيل الشباب إذا توفّرت فيها عناصر الإبداع والتجديد وتناولها النقد الجاد خارج السجن، بعيدًا عن معايير التعاطف أو التضامن الشكليّ.
ومن داخل سجون الاستعمار والصهيونية تسلّلت قصيدة "من سجن عكا" التي كتبت بالفحم على جدران الزنزانة وحفرت كلماتها الخالدة في ذاكرة الشعب.
إن المكتبة الفلسطينية والعربية تضُمّ اليوم عشرات الرّوايات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر والرسوم والفنون وعشرات الدراسات السياسيّة والترجمات والمقالات القيّمة التي وصلتنا من داخل السجون درست كيان العدّو عن قرب وتعرّفت على لغته وتناقضاته وأحواله.
رواية "سرّ الزيت" التي صدرت العام الماضي للأسير الكاتب وليد دقة أثارت حفيظة الدوائر الأمنية الصهيونية أخيرًا وعرّضت هذا المناضل للعقوبة والعزل الانفرادي.
هذه رواية يتسع انتشارها اليوم في أوساط الشباب والفتية وتشكل نموذجًا حيًا على ضرورة كسر العلاقة "الرمزية مع عمالقة الصبر" الى ما هو أعمق وأبعد بين القارئ والكاتب. (الأسير في هذه الحالة) بوصفه إنسانًا مُبدعًا أولاً وأديبًا ومناضلاً أيضًا.
تحفظ ذاكرة الفلسطينيين أسماء شهداء الحركة الأسيرة منذ "شهداء سجن عكا" في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي الى الشهيد ابراهيم الرّاعي الذي ترجم شعار "الاعتراف خيانة" بالموقف والدم، إنه النموذج الفذّ لتلازم الوعي والإرادة في أقبية التعذيب.
حكاية الرّاعي الذي قرر الصمود حتى النفس الأخير تُشبه الى حدود الدهشة والتطابق تجربة المناضل الجزائري الشهيد "العربي بن مهيدي" * في المقاومة والتضحية وحالة التحدي الاستثنائية أمام الجلاّدين والقتلة فباتا بحقّ بَوصلة ثورية وصفحة مُضيئة خالدة في ضمير وذاكرة شعبهم
..........
* العربي بن مهيدي أحد أبرز قادة ثورة الجزائر التحريرية 1954 استشهد في 4 آذار/ مارس 1957 وفي عام 2001 اعترف الجنرال الفرنسي بول أوساريس لصحيفة "لوموند" بأنه هو الذي قتل بيده العربي بن مهيدي.