"من أول ما بلّش الفيروس ينتشر في "إسرائيل" أنا كنت بدي أروّح، بس المنهيل [المدير] قلّنا اللي بروِّح ما يرجع على الشغل"، يقول مصعب (اسم مستعار، 30 عاماً)، وهو عامل من إحدى قرى محافظة سلفيت، ويعمل داخل الأراضي المحتلّة عام 1948. في هذه السطور، يحكي مصعب قصّة بقائه للعمل في الداخل، ثم كيف اتّخذ قراره بالعودة إلى الضفّة، وما الإجراءات التي اتّخذتها السلطة الفلسطينيّة لمتابعته والحرص على سلامته وسلامة من حوله. تعرض هذه القصّة صورةً عن طبيعة الاستغلال الإسرائيليّ لعمّال الضفّة، لكنّها تكشف أيضاً مدى استهتار السلطة الفلسطينيّة وإهمالها.
يتصاعد الجدل حول العمال الفلسطينيين في "إسرائيل" على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتُذكيه مداخلات الناطق بلسان الحكومة الفلسطينيّة، إبراهيم ملحم، التي حوّلت العمّال متهماً رئيسيّاً بنقل الفيروس لمناطق الضفّة الغربيّة بعد تسجيل عددٍ من الإصابات بينهم، ووصفهم من قبل ملحم "بالخاصرة الرخوة". واشتدّ هذا المزاج الإعلاميّ والشعبيّ بعد أول حالة وفاة بالفيروس لسيدةٍ من قرية بدّو، بعد أن انتقلت إليها العدوى من ابنها العامل في أراضي الـ 48.
سرقة الراتب
يلتزم مصعب بحجرٍ صحيّ لأسبوعين بعد عودته إلى الضفّة. قبل الأزمة، كان يعود ويذهب إلى عمله يومياً، إلا أن ذلك قد تغيّر بعد تفشّي الوباء. طلبت الشركة منه، كما من سائر العمّال، المبيت خوفاً من حدوث أي تعطل في التنقّل، وذلك لما يترتب على الشركة من مواعيد لتسليم الشقق. في المقابل، أمهلت السلطة العمّال ثلاثة أيّام "لترتيب أمورهم" في الداخل، وقد كُشف لاحقاً أن هذه المهلة كانت ضمن اتفاقٍ بين السلطة و"إسرائيل" يقضي باستمرار شغل العمّال في الداخل.
قرّر مصعب أن يخاطر بفقدان عمله، إثر تهديدات المدير بفصلهم، وآثر المجازفة على أن يستمر في تعريض نفسه للخطر. لكنّ عائقاً آخر واجهه: "احنا رواتبنا بتنزل في عشرين الشهر، قررنا نستنى نوخذ الرواتب ونروح"، فإن كان قد قرّر المجازفة بفرصة العمل، لا يمكنه أن يخاطر بفقدان مستحقّاته أيضاً.
انتظر حتى يوم 20 مارس/ آذار مواصلاً في عمله ليحصل على راتب الشهر ومن ثم يعود، لكنّ مديره استمرّ يخلق مبرّرات وحججاً لعدم دفع الراتب؛ إما بإغلاق البنوك، أو عدم توفّر سيولةٍ ماليّة... "كانوا بيحاولوا يربطونا لأطول وقت ممكن في الشغل". بعد مماطلةٍ طالت أسبوع، قرّر مصعب العودة إلى البلد دون الحصول على راتبه حتى هذه اللحظة.
محافظ سلفيت يهدد الذكور
تزامنت عودة مصعب مع انقلاب المجريات، وذلك بعد نقل الاحتلال لعمالٍ تظهر عليهم أعراض الإصابة بفيروس "كورونا" إلى الضفّة، والتنكيل بهم على الحواجز. إثر ذلك، طالب اشتية العمّال بالعودة إلى الضفّة وحجر أنفسهم لمدة 14 يوماً. وفوق اشتيّة والناطق، جاء محافظ سلفيت أيضاً، عبد الله كميل، ليطلق تهديدات باعتقال كلّ عامل يخرق الحجر المنزليّ، واعتقال جميع أفراد أسرته من الذكور (يبدو أن قوانين طوارئ السلطة تسري على الذكور فقط)، الذين لا يُبلغون عن عاملٍ لا يلتزم بالحجر المنزليّ – أو بكلمات أخرى: اعتقال كل من لا يعمل واشياً على أخيه لدى السّلطة.
ولكن ما الذي انتظر عدداً من العمّال فعلاً عندما قرّروا العودة إلى بيوتهم والالتزام بالحجر الصحيّ وفق قرارات السلطة؟
يقول مصعب إنّه لم يتلقَّ أي اتصال من أي جهةٍ تابعةٍ للسلطة أو للمجلس المحليّ. لذلك اتّصل بنفسه بالمجلس القرويّ وأبلغهم بنيته العودة من أجل القيام بالترتيبات المناسبة. يخبرنا مصعب عن طريق عودته مع رفاقه في العمل من مدينة "حولون" (المقامة على أراضي تل الريش المهجّرة) إلى سلفيت: "لبست كمامة وكفوف وأخذت معي معقّم، بس طلعنا بالمواصلات العامة عشان نوصل لعند أريئيل وأوصل سلفيت".
فحص حرارة على الأقل؟
خلال ذلك كان يتواصل مع المجلس القروي ليبلغهم بخطِّ سيره ووقت وصوله، من أجل ترتيب الاجراءات اللازمة لنقله في مركبة خاصة كي لا يختلط بأحد عند وصوله. هذا كلّه بعد أن رتّب أمور البيت، فغادرت زوجته وأولاده المنزل إلى بيت أهلها، وتعقيم البيت وتجهيزه بكل ما يلزم لفترة الحجر. يقول: "لمّا وصلت دوار أريئيل حكوا لي امشي لأول حاجز أمن وطني، يعني بتحكي حوالي 3 كيلومتر مشي، مع انهم حكولي السيارة راح توصل عندك".
"وصلنا الحاجز، وهناك طرحوا بعض الأسئلة عن مكان العمل، وبعدين عن وجود أعراض الفيروس أو لا. ما كان في على الحاجز دكتور، وما حدا فحصلنا حتّى الحرارة!". ويضيف: "سألتهم ’فش فحص؟‘ حكوا لي لأ... لو أن زوجتي وأولادي لم يغادروا الدار كلياً، ما كان قبلت أروّحلهم بلا فحص".
"طلعنا من سلفيت للبلد، كان في كمان حاجز ووقفنا عليه، هناك وقعنا على أوراق تلزمنا بالحجر الصحي لمدة 14 يوماً، وأخذوا هويّاتنا عشان نلتزم بالحجر"، مع هذه الإجراءات وغياب أي وجود للطواقم الطبية يقول مصعب إنَّ الشعور بالخوف كان ملازماً له نظراً لأنه عاد بالمواصلات العامة ولعدم وجود أي تعامل طبيّ معه.
وصل مصعب إلى منزله حيث سيبقى في الحجر لمدة 14 يوماً، "بعد ما وصلت شفت رئيس المجلس واعطاني إرشادات الحجر شفهيّاً، حكالي في ورقة بالدار فيها إرشادات، بس ما اعطاني أي رقم. رقم الطب الوقائي شفته على فيسبوك، أخدته، وخليته احتياط، لأنه بلا فحص الواحد بضل خايف".
وعند سؤال عمّال آخرين عن مصادرة هوياتهم، قالوا إنّ الأجهزة الأمنيّة أو طواقم من المجالس المحليّة صادرت منهم عند عودتهم من الداخل بطاقات الهوية الشخصيّة، كـ"ضمان" لبقائهم ملتزمين بالحجر المنزليّ. وفي حالات أخرى صُودِرت التصاريح من بعض العمّال الذين يعملون في مستوطنات الضّفة الغربيّة، لـ"ضمان" عدم توجههم للعمل.
أحد العمّال أضاف ساخراً: "يبدو في حدا نبههم إنه العامل في "إسرائيل" بقدر ينزل على الشغل إذا معه بطاقة ممغنطة وفش حاجة لبطاقة الهوية ولا التصريح، فبدأوا بمصادرة البطاقات الممغنطة من البعض". يُعلق آخر: "بس مهو اليوم في حواجز بقدر الواحد يمرّ عنها بالبصمة.".
هذه قصّة أخرى تعكس جانباً الانتهاكات التي يتعرّض لها العمّال الفلسطينيون في الداخل، بين الاستغلال المباشر وسرقة الرواتب والمستحقات التي يمارسها المشغّل المباشر، أو الاستغلال الذي مارسته "إسرائيل" حين حاولت إبقاءهم في العمل بثمن تعريض حياتهم للخطر. وجرى هذا الاستغلال الإسرائيليّ بموافقة السلطة الفلسطينيّة في الأيّام الأولى. لكن الأشد ألماً في حالنا هو طبيعة تعامل السّلطة، من إهمالٍ وانعدام للفحص الطبيّ في كثير من الحالات، والأسوأ من هذا – تحويلهم إلى مشتبهين ومُتهمين والتعامل معهم بلهجة التهديد والوعيد.
تُنشر هذه المادة بالشراكة مع متراس