مع قرب الإعلان عن "صفقة ترامب"، أزفت لحظة الحقيقة التي تستدعي اتخاذ موقف فلسطيني حاسم ومغاير عن المواقف السابقة، في ظل توارد الأنباء عن الإعلان عن تفاصيلها عشية أو غداة أو أثناء اللقاءات التي سيعقدها دونالد ترامب في البيت الأبيض مع بنيامين نتنياهو وبيني غانتس، منفردين، وربما مجتمعين.
توقيت الإعلان مرتبط بحاجة نتنياهو - الذي يواجه خطر رفع الحصانة – إلى دعم استثنائي لإنقاذه وزيادة فرصه في الانتخابات القادمة، وبحاجة ترامب - الذي يواجه محاكمة لعزله – إلى استمرار وزيادة دعم الإنجيليين والمحافظين، وهي تتويجٌ لما طُبّق، وتمهيدٌ لما سيُطبّق لاحقًا.
وفي هذا السياق، تأتي "الصفقة" المسمومة وكأنها مبادرة أميركية تسبق فيها الولاياتُ المتحدة، لأول مرة، إسرائيلَ في دعم الأهداف والأطماع التوسعية والعنصرية. فالمؤامرة بصرف النظر عن مضمونها وتفاصيلها، تهدف إلى محاولة تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها، كما تدل سلسلة التسريبات والتصريحات والإجراءات التي اتخذتها إدارة البيت الأبيض.
المطروح ليس تسوية ولا خطة يمكن أن تقود إلى السلام، وإنما محاولة لفرض الحل الإسرائيلي بأسوأ صوره، ومصممة لكي يرفضها الفلسطينيون لتبرير الخطوات اللاحقة، بما يؤكد قول نتنياهو بأنها فرصة تاريخية لن تتكرر ويجب التقاطها.
يتجاذب الفلسطينيون موقفَيْن رئيسيين متناقضَيْن: يتميز الأول بالاستخفاف والتهوين من مؤامرة ترامب، وينام أصحابه على وسادة من الأوهام بأنها ولدت ميتة، وبإعلانها ستكون نهايتها، وليست أكثر من حقائق على الأرض لا يترتب عليها حقًا ولا ينشأ منها أي التزام، كونها لن تجد شريكًا فلسطينيًا، وبالتالي لن تقود إلى الأمن والاستقرار في المنطقة.
ويتميز الموقف الثاني بالمبالغة الشديدة والتهويل بما يجري، وأنه نهاية للقضية الفلسطينية، وأداة تجسيدها الحركة الوطنية الفلسطينية.
وهناك موقف ثالث، يرى خطورة قيام إدارة أميركية بدعم اليمين الاستيطاني التوسعي الإسرائيلي لتنفيذ مخططاته بالضم، وإقامة "إسرائيل الكبرى"، من دون مبالغة ولا نقصان من أهمية فرض المزيد من الحقائق الاحتلالية والعنصرية على الأرض الفلسطينية، لأنه إذا لم يكن هناك رد استراتيجي قادر على إحباطها فستتحول إلى حقائق دائمة، وتكتسب الشرعية لاحقًا مثلما حصل بعد قيام إسرائيل.
ولكن هذا الموقف لا يعد هذا الأمر نهاية المطاف، إذ لا يزال الشعب، الذي نصفه على أرض وطنه، مؤمنًا بعدالة قضيته وتفوقها الأخلاقي، وقدرته على مواصلة الكفاح لتجسيدها، وما مظاهر اليأس والإحباط المنتشرة في صفوفه إلا دليل على الهوة المتزايدة ما بين الشعب وقيادته وقواه السياسية، وليس استسلامًا للواقع. فالشعب سيتحرك عاجلًا أم آجلًا لإعادة بناء حركته الوطنية، لتكون قادرة على تحقيق أهدافه.
يتمثل خطر خطة ترامب في أنها تنفذ في ظل التيه والانقسام والضعف الفلسطيني، وبتواطؤ من بعض الدول العربية وصمت دولي، وأنها ستقود، إذا استمرت العوامل القائمة حاليًا، خصوصًا الأداء الفلسطيني وموازين القوى القائمة على ما هي عليه؛ إلى هزيمة جديدة للفلسطينيين.
أما بخصوص التلويح بأن الخطة ستتضمن دولة فلسطينية على 40%، ويمكن أن تكبر لتصبح على 70% من الضفة الغربية، إذا اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة يهودية، ونزع سلاح غزة، وخصوصًا حركة حماس، فما هو سوى قناع كاذب يهدف إلى ذر الرماد في العيون، وليس التطبيق على أرض الواقع. فلا يوجد فلسطيني له وزن يمكن أن يوافق على إقامة دولة لا تملك من مقومات الدول سوى الاسم، وتقوم مقابل التخلي عن الكرامة والهوية الوطنية، وعن السيادة على الحدود والمياه والأجواء والمصادر الطبيعية، وعن القدس واللاجئين وحق تقرير المصير، وحق الشعب الفلسطيني في أراضي 48 في المساواة، فضلًا عن أن تكون منزوعة السلاح، ويحق لقوات الاحتلال اقتحامها متى شاءت.
لقد استمرت القضية الفلسطينية حية منذ أكثر من مائة عام رغم كل الكوارث والهزائم والتنازلات، ولم تكن الهزائم السابقة على قساوتها البالغة سوى لحظات عابرة في التاريخ، وكذلك ستكون "صفقة ترامب" إذا مرّت.
أثبتت القيادة الفلسطينية، اليوم مرة أخرى، كما يدل سلوكها بعد الأنباء عن قرب الإعلان عن مؤامرة ترامب، بأنها ليست بمستوى التحديات والمخاطر، ولا تمثل شعب الجبارين، فهي لم تكلف نفسها حتى بعقد اجتماع عاجل، مع أن الاجتماعات التي تحدث لا قيمة لها، ولم تدع إلى حوار وطني شامل للاتفاق على مواجهة المخاطر وتوظيف الفرص، ولا استنفرت وزجت جهودها، عربيًا ودوليًا، لإحباط المؤامرة، بل آثرت الانتظار إلى حين إعلان الصفقة، حالها مثل الطريدة التي تقف مستسلمة إلى أن يصطادها الصياد.
كما قامت القيادة سابقًا بما يمنع توفير مستلزمات نصرة القضية والشعب، بما ساهم في جعلنا لقمة سائغة في فم الأعداء، وبما ارتكبته من أخطاء وخطايا تجلت ذروتها في إهدار الإنسان وقيمته ودوره وحقوقه وحرياته، وفي توقيع اتفاق أوسلو واستمرار التمسك به رغم ما أدى إليه، ومع تخلي إسرائيل عنه، فضلًا عن إلقاء أوراق القوة والضغط، وتآكل الشرعيات، وتجويف المؤسسات في السلطة والمنظمة، وجعلها مرتعًا للهدر والمحسوبية والفساد. لذا، توجد القيادة، الآن، في وضع لا تملك فيه خيارات سوى استمرار سياستها التي أوصلتنا إلى الكارثة التي نعيشها، وستوصلنا إلى كارثة أكبر إذا لم تسارع بتغيير سياساتها، قبل أن يفرض عليها الشعب التجديد والتغيير والإصلاح.
وهذا الأمر لن تقدم عليه على الأرجح، لأنها باتت عبئًا على القضية، وغير قادرة على الحركة لأنها مقيدة بأفكارها وسياساتها، ومؤسساتها المجوّفة، والقيود الغليظة التي تُكَبِّلُها، وجماعات المصالح التي أوجدتها، بل ستكتفي بالرفض اللفظي للمؤامرة، وتجنب المجابهة المفروضة، وستبقى متمترسة بسياسة الرهان على ما يسمى "عملية السلام" وإنقاذ أوسلو، الذي قتلته الحكومات الإسرائيلية منذ زمن، وأطلقت عليه إدارة ترامب رصاصة الرحمة ودفنته.
إنّ الحديث المتكرر غير الجدي عن التخلي عن أوسلو ووقف الالتزامات المترتبة عليه، وتطبيق القرارات المتخذة، في الوقت الذي لم يعد فيه "أوسلو" موجودًا، لم يعد ينطلي على أحد. فمن يريد تغيير المسار، عليه أن ينطلق من وحدة الشعب والأرض والقضية في مواجهة مشروع استعماري استيطاني، وعقد مؤتمر وطني واسع التمثيل لتبني رؤية جديدة، تنبثق عنها استراتيجيات متعددة ومتكاملة، تحافظ على المشترك بين الفلسطينيين من دون إغفال الأولويات الخاصة بكل تجمع.
ويعدّ تحقيق الوحدة ضرورة وطنية من دونها لا يمكن مواجهة الأخطار، ويتطلب إنجازها الاتفاق على أسس وطنية وشراكة حقيقية، وتنازل طرفي الانقسام عن مصالحهما الخاصة لصالح المصلحة الوطنية، وإذا لم يفعلا ذلك، فعلى الشعب إجبارهما على ذلك.
وفي إطار الرؤية الجديدة، تكتسب مسألة مواصلة وتوفير مقومات الصمود الفلسطيني، واستمرار التواجد الشعبي على أرض فلسطين، أولوية كبرى، وكذلك عدم منح المؤامرة الشرعية، لا سيما أن إسرائيل تعاني من نقاط ضعف كثيرة، أهمها عدم الشرعية والأمان. وهي قد تستطيع الانتصار في حرب أو اثنتين أو عشر، ولكن سيطرح مليون علامة سؤال حول وجودها إذا خسرت حربًا كبيرة واحدة.
لن يبقى الفلسطينيون ولا العرب ولا الإقليم والعالم على ما هو عليه الآن، بل هناك تغييرات جوهرية تجري، ويمكن أن تجري، ولن تكون دائمًا في مصلحة إسرائيل، ومن ضمن هذه التغييرات تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة والعالم لأسباب كثيرة، منها أنها لم تعد بحاجة إلى النفط بعد أن أصبحت منتجة، وتريد أن تؤمن إسرائيل قبل أن تستكمل انسحابها، ومنها وجود تعددية قطبية تقف فيها الصين رأسًا برأس مع أميركا، وهذا معطى في منتهى الأهمية يمكن البناء عليه.