بيت لحم- خاص قُدس الإخبارية: على بعد ثلاثة عشر كيلومتراً إلى الجنوب من القدس، وحوالي خمسة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من بيت لحم، تتربع قلعة هيروديون على تل مصطنع مخروطي الشكل، يبلغ ارتفاعه حوالي سبعمائة وثمانٍ وخمسين متراً فوق سطح البحر، وبالتالي فلك أن تحظى بإطلالة مميزة لمسافات بعيدة من الغور، والبحر الميت، بل حتى تستطيع مشاهدة العاصمة القدس وما حولها، فهل لك أن تتخيل جمال هذا المشهد!
أما في الوقت الحالي فيطل جبل هيروديون على قرية تقوع، وأبو نجيم الواقعات إلى الغرب منه، كما وتشاهد بيت لحم ببيوتها وعمرانها، وترى كذلك بيت ساحور، ودير مارسابا، والقدس، وأبوديس، وتتناثر بيوت قلعة زعترة وبيت تعمر إلى الأسفل منه مباشرة.
أما ما يميز جبل هيروديون هو أن الرائي يخاله بركاناً خامداً لا قلعة حصينة، ولعل هيرودس لم يبنِ هذه القلعة بهذا المكان عبثاً إنما كان في هذا الموقع ما يخلده، ففيه واجه بعض قوات الفرثيين وأنتيغونس؛ وذلك أثناء انسحابه من القدس إلى قلعة مسعدة، وانتصر عليهم في هذا الموقع عام 40 ق.م، وبالتالي بنى صرحاً ضخماً تخليداً لهذا الانتصار، كما أراد من هذه القلعة بالذات أن تكون مكاناً لدفنه، بالإضافة إلى ذلك أراد لها أن تكون مركزاً لدولة واحدة قريبة من القدس، وتحتوي مرافق إدارية مختلفة.
ولنعطي نبذة سريعة عن صاحب هذا الصرح فهو هيرود (هيرودس) بن أنتباتر الآدومي، ينتمي للقبائل الآدومية التي كانت تسكن جنوب البحر الميت منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، وهيرودس ذو اسم إغريقي وهو ما قد يثبت عدم يهوديته فأغلب الظن أنه كان وثنياً، وليس له انتماء يهودي حتى، وقد حاول أحياناً استرضاء اليهود المؤيدين لحكمه، وقد سيطرت الثقافة الهيلينية على حياته، وجعل فلسطين مملكة رومانية، وحاول قدر الإمكان إبعادها عن الدين اليهودي، إلا أن هناك روايات تفند ذلك وتقول أن القبائل الآدومية فُرض عليهم التهود من قبل أحد قادة الدولة الحشمونية مقابل البقاء في أراضيهم،.
وقد استمرت هذه السياسة بالتهديد بالطرد أو بالتهود، فاختاروا التهود مجبرين وذلك لبقائهم في أراضيهم، وقد عاش هيرودس مع إخوته الثلاثة وأخته مع جدهم من جهة والدتهم والتي هي بالأصل من أصول نبطية (ابنة ملك الأنباط العربي الحارث الثالث) وتدعى سيبروس في الصحراء لفترة من الزمن وذلك بسبب اندلاع حرب أهلية، وقد أكسبته الصحراء الصلابة، والشدة، وقد تربى على الفصاحة، بل وصبغ بميزات العرب ذوي الطبيعة الصافية، والإحساس القوي وقوة الحدس، وتعلم من جده وأباه العديد من اللغات كالإغريقية، والفارسية، والهندية، والرومانية، فنشأ بشخصية غريبة يشوبها التعقيد والتشابك والمزاج العصبي، إلا أنه كان سياسياً عبقرياً، وقائداً حكيماً بغض النظر عن سذاجته أحياناً، وانغماسه بالملذات، إلا أنه قد ترك بصمته في التاريخ من خلال أعماله العمرانية، والسلام الذي عم مملكته وتجنبه لحروب الإمبراطوريات.
وقد تولى الحكم على القدس خاصة وفلسطين عامة عام 37 ق.م، واستمر حكمه ل 4ق.م، يقال أنه تزوج من عشر نساء، قتل بعضهن، بل حتى قتل بعض أبنائه لاشتراكهم في مؤامرات ضده، إلا أن نهايته لم تكن أفضل حالاً فقد أصابت قرحة معدته جعلت الدود يخرج من جسده، حتى مات.
ولنأخذ جولة إلى داخل هذا الصرح المعماري الضخم الذي بني تقريباً في حدود السنة 22ق.م إلا أن التاريخ غير مؤكد لكن الأحداث التاريخية تقدر هذا التاريخ، فلك أن تحسب كم من الزمن لبث، بل وكم من الخطوب قد مر عليه !! فيمكنك أن ترى قلعة دائرية الشكل بأبراج دفاعية في قمتها، وأبراج أخرى للمراقبة، وفناء ملكي كبير، وغرف للمعيشة، وقصوراً، ومدرجات لألعاب تلك الحقبة ومهرجاناتها، وحمامات فاخرة على الطراز الروماني، وأروقة وممرات وأسقف جمالونية، وحدائق جميلة، وبركة ماء مزخرفة بالفسيفساء مصدر مياهها من عين إرطاس الواقعة بالقرب من بيت لحم، بالإضافة إلى أن القلعة لا تخلو من الأنفاق الموزعة في باطن الجبل، ومستودعات، ومخازن للأسلحة، وبالطبع إلى مخارج سرية بالطبع، ووجد بالحفريات الأخيرة التي أجريت في الموقع الأثري على منصة حجرية ضخمة يعتقد أنها احتوت على قبر الملك هيرودس ورفاته.
بالنسبة للتسمية فيطلق عليه هيروديون وذلك نسبة لبانيه هيرودس، وهو من المباني الوحيدة التي حملت اسمه. كما أطلق عليه جبل الفرديس أي الجنة ولعلها التسمية العربية للجبل، أما الأجانب فأطلقوا عليه جبل الإفرنج وذلك بوقت الحروب الصليبية، وتاريخياً يطلق عليه هيروديوم.
تستولي سلطات الاحتلال على هذا الصرح التاريخي بالقوة منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة عام 1967م، ولعل لـ"إسرائيل" حجة للاستيلاء عليه، فهو بحسب روايتهم المزعومة أن "هيرودس" باني هذه القلعة هو نفسه باني هيكل سليمان الثاني المزعوم في القدس، بل وأنه بنى القلعة هذه ليرى من قمتها هيكل سليمان في القدس، وتقوم هيئة السياحة التابعة لحكومة الاحتلال، بترميم هذه القلعة بشكل دوري، كما وزودت القلعة بلوحات إرشادية بالعربية، والعبرية، والإنجليزية.
المصادر:
الدباغ، مصطفى، بلادنا فلسطين.
أبو ارميس، هيروديوم دراسة تاريخية أثرية.
مصطفى، وليد، قصة مدينة بيت لحم.