حقول الغاز التي يهيمن عليها العدوّ الإسرائيلي في شرق البحر المتوسط، وتستورد منها مصر الغاز اليوم، هي حقول مصرية تقع في المياه الاقتصادية المصريّة، كما تؤكّد ذلك العديد من المصادر.
وبقياس سريع للمسافات باستخدام أيّ أداة تقنية متاحة للعامّة من الناس، تتجلّى هذه الحقيقة بوضوح، وهو ما يعني أن الحكومة المصريّة تخلّت عن حقوق الشعب المصري في حقول الغاز في البحر المتوسط لصالح الكيان الإسرائيلي، ثم أعادت شراءه من جديد بتكلفة عالية.
وفوق ذلك أسّست "منتدى غاز شرق المتوسط" مع كل من "إسرائيل" واليونان وقبرص اليونانية وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، وبدون سوريا ولبنان وتركيا، ثم أطلقت مع شركائها الإطار التأسيسي لتحويله إلى منظمة دوليّة لقطع الطريق على الحضور التركي في معادلة الطاقة في المتوسط.
ثلاث خدمات تقدّمها الحكومة المصريّة دفعة واحدة للكيان الإسرائيلي في هذا الملف وحده، أي التنازل له عن حقول الغاز، وشراء الغاز منه، وحماية مصالحه في المتوسط. ولا معنى والحال هذه، للحديث عن كون الحضور التركي المصادم للمصالح الإسرائيلية في المتوسط هو خادم للمصالح المصريّة في الوقت نفسه.
فقد تنازلت الحكومة المصريّة عن حقوق شعبها أساسا في حقول الغاز، وتكلّفت ضمان أرباح الإسرائيليين من قوت المصريين، فالسلوك المتوقّع بعد ذلك، هو التحالف مع الإسرائيلي لتكريس ضمان مصالحه، وقطع الطريق على منافسيه.
تنازلت الحكومة المصريّة عن حقوق شعبها أساسا في حقول الغاز، وتكلّفت ضمان أرباح الإسرائيليين من قوت المصريين، فالسلوك المتوقّع بعد ذلك، هو التحالف مع الإسرائيلي لتكريس ضمان مصالحه، وقطع الطريق على منافسيه.
هذه الحقيقة لا شكّ أنّها صادمة للغاية، وتستعصي على التفسير. وقد سبق لي كتابة العديد من المقالات التي تتساءل عن سياسات عبد الفتاح السيسي المفرّطة في الثروات والحقوق المصرية، كمياه النيل والجزيرتين وحقول الغاز، بالإضافة لتهجير المصريين من رفح المصرية وبعض مناطق شمال سيناء، فضلا عن التحالف الوثيق مع "إسرائيل" والذي ظهر منذ اللحظة الأولى لانقلابه، واحتفاء "إسرائيل" غير المسبوق به.
التفسير التلقائي لمركّب تلك السياسات، هو أن السيسي كان، وما يزال، يشتري الدعم الإسرائيلي لانقلابه في المحافل الدولية، والنفاذ من البوابة الإسرائيلية إلى القبول الأمريكي، وهو تفسير لا يخلو من الحقيقة، لكن الأثمان التي دفعها السيسي تفوق ما يحتاجه، فالإسرائيلي، وفي كلّ الأحوال، سيدعمه، مهما كانت قيمة المدفوعات المصرية مقابل دعمه، فالتخلّص من حكم الإخوان المسلمين، وتحطيم الثورات العربية، وإعادة ضبط المنطقة والتحكم في حركتها، وتحقيق القدر المطلوب من القدرة لاستشراف مستقبل المنطقة، هدف استراتيجي وجودي بالنسبة للإسرائيلي، وقد كان متحقّقا له في فترة حكم مبارك، والتي قُدّمت أثناءها أثمانٌ مدفوعة من كيس المصريين والعرب، ولكنّها أقلّ ممّا يدفعه السيسي الآن.
صحيح أنّ قضيّة حقول الغاز والتنازل عنها للإسرائيلي، بدأت زمن مبارك، إلا أن القيمة الإجمالية للخدمات التي يقدّمها النظام المصري لـ"إسرائيل" تضاعفت مع السيسي، إلى حدّ يستحيل تصوّره، وهو ما يُظهر السيسي وكأنّه في مهمّة مُقدّسة لإهدار ثروات مصر وتذييلها لـ"إسرائيل" وإلى الأبد. بيد أنّه، ومهما كان التفسير الصحيح من بين الاثنين، فإنّ النتيجة واحدة، لا سيما وأنّ حقبة مبارك، كانت تُدفع فيها الأثمان لـ"إسرائيل" وغيرها لتثبيت النظام.
الضرورات الوجوديّة لـ"إسرائيل" تستدعي وجود أنظمة ذيلية تابعة، ومنع أيّ نهضة عربيّة، أو قيام حكم رشيد في أيّ بلد عربيّ، وتحديدا في الدول المركزية والمجاورة
الخلاصة المستفادة من ذلك، هي أن العلاقة عضويّة بين القضية الفلسطينية وقضايا العرب الخاصّة بهم، فالضرورات الوجوديّة لـ"إسرائيل" تستدعي وجود أنظمة ذيلية تابعة، ومنع أيّ نهضة عربيّة، أو قيام حكم رشيد في أيّ بلد عربيّ، وتحديدا في الدول المركزية والمجاورة، سواء كانت صورة هذا المنع عمالة عقائدية خالصة، أم تبعية الضعيف والمحتاج، فإنهاء هذه الحالة الاستعمارية في المقابل ضرورة عربيّة، بما لا يقلّ عن ضرورتها فلسطينيّا.
إنّ الاعتقاد بإمكان إرجاء التعامل مع القضية الفلسطينية إلى ما بعد بناء القوّة العربية، أو التنازل الظاهري أو الجوهري عن فلسطين لصالح ديمقراطية حقيقية، هو محض وهم؛ سقط فيه كثيرون من الفاعلين فيما سُمّي بثورات الربيع العربي. فتفكير الإسرائيلي هو تفكير استراتيجي وجودي، لا يعتمد على الضمانات، بقدر ما يعتمد على تثبيت الحقائق على الأرض، وأهمّ حقيقة يشتغل على تكريسها هي قدرته على التحكم في البيئة المحيطة، وضمان التحولات المحتملة، وهذا لا يتأتّى بالسماح بتداول حقيقي ونزيه للسلطة في البلاد المجاورة.
المصدر: عربي 21