شبكة قدس الإخبارية

قراءة في الردود الفلسطينية على اغتيال سليماني

95
هاني المصري

جاءت الردود الفلسطينية على اغتيال قاسم سليماني ومن معه متباينة جدًا، وسط صمت رسمي مطبق.

فهناك من اعتبر سليماني "شهيد فلسطين" و"جيفارا العصر الحديث"، وفتح خيمة عزاء له.

وهناك من شمت بموته واعتبره "قاتل أطفال سوريا والعراق"، و"إرهابي" لا يختلف عن أبي بكر البغدادي، قافزًا عن السياق الذي نفّذت فيه الجريمة، وبيد من، ولتحقيق أية أهداف؟

وهناك بحق من اعتبر اغتيال سليماني جريمة مزدوجة، لأنها جريمة بحق مسؤولَيْن كبيرَيْن إيراني وآخر عراقي من بلد خارجي، منتهكًا سيادة العراق والاتفاقيات الثنائية والقواعد التي تحكم العلاقات بين الدول. ويكفي القول: انظروا إلى الاحتفال الإسرائيلي باغتيال سليماني، رغم التخوف الإسرائيلي من الردود المحتملة من إيران وحلفائها وأذرعتها.

كما أن الجريمة مغامرة مجنونة يمكن أن تفتح أبواب جهنم على المنطقة، وربما العالم، بما تمثله من تغيير لقواعد الاشتباك، فهي أقرب إلى إعلان حرب، إذا اندلعت، لن تبقي ولا تذر، ولا يعرف أحد إلى أين ستنتهي، والمنتصر فيها سيكون مثخنًا بالجراح ومهزومًا بحكم الدمار والموت والمعاناة الهائلة التي سيعاني منها الجميع.

وبنظرة على خلفية أصحاب المواقف المتباينة، سنجد لوحة غريبة عجيبة تحتوي على انقسامات واسعة، حتى في صفوف كل جماعة وتيار، فنجد في صفوف الإخوان المسلمين، وغيرهم من الحركات الإسلامية، والقوميين واليساريين من يقف مع هذا الموقف، ومن بينهم من يقف على نقيضه تمامًا.

تكمن جذور التباين الشديد في المواقف في الخلاف حول تقييم الدور الإيراني بشكل عام، ودوره في سوريا بشكل خاص. فهناك من يعدّ إيران عدوًا، ولا تقل خطورة عن إسرائيل، بل يكاد بعض الفلسطينيين، ولو القليل، يتماهى ويصل إلى ما وصل إليه بعض العرب من اعتبار إيران العدو الأخطر، إلى حد الاستعداد للتحالف مع إسرائيل وأميركا لمحاربتها على قاعدة عدو عدوي صديقي.

وهناك من يعدّ إيران قلعة المقاومة، التي من دون دورها كانت إسرائيل ستنجح في تصفية القضية الفلسطينية، وتفرض هيمنتها على الشرق الأوسط برمته.

وهناك رأي ثالث لا يقبل المساواة بين كيان استعماري صهيوني عنصري يمثل امتدادًا للمشروع الاستعماري الجديد في المنطقة، وبين دولة جارة للعرب منذ آلاف السنين، تتعرض بعد ثورتها في العام 1979 للحصار والعقوبات والعدوان، لأنها ثارت على الهيمنة الأميركية، حتى لو كانت لها أطماع قومية توسعية وسعي لمد نفوذها من خلال أذرع وسياسات طائفية وقمعية، ساعد على انتشارها موقف بعض العرب ممن انتصر لأعداء إيران، وعمل على إسقاطها خدمة لهم بدلًا من السعي للاتفاق معها بعيدًا عن الهيمنة والحروب.

ما سبق يدفعنا إلى التذكير بما لا يجب أن ننساه، وهو أن القضية الفلسطينية عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، وجامعة للدعم والتأييد من مختلف الأطراف والتيارات، وهي أساس الصمود والتحرر والمقاومة، ويجب أن تبقى كذلك من دون الانحياز لمحور دون آخر، مع رؤية التقاطعات والمصالح المشتركة بينها وبين هذا المحور أو ذاك.

فالقضية الفلسطينية تجد الدعم، أولًا، من العرب، خصوصًا الشعوب العربية، فمن دون العمق العربي لكانت القضية أثرًا بعد عين؛ لذلك يجب أن تقف القيادة والقوى الفلسطينية مع حق الشعوب العربية في الحرية والسيادة والعدالة والديمقراطية من دون التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، ولا أن تنحرف عن دورها الأساسي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وتجد الدعم، ثانيًا، من الأحرار والشرفاء في العالم كله.

أما حول ما جرى في سوريا، فقد ارتكب النظام فظائع، وهو نظام شمولي استبدادي فاسد، يُوجب إصلاحه، أو الثورة لتغييره، ولكن على أيدي السوريين وبشكل ديمقراطي، وليس عبر الاستعانة بالشياطين المعادين لفلسطين والعرب والديقراطية، رغم رفع لوائها، لأن من يستعن بالشيطان يصبح عبدًا له.

كما ارتكبت إيران أخطاء وخطايا وجرائم في العراق وسوريا وغيرهما، ولكن هذا لا يجب أن يطمس أو يتجاهل أنها دخلت سوريا بطلب من النظام الحاكم، وأنها إن لم تفعل ذلك فسيأتي الدور عليها، لأنه إن سقطت سوريا بيد أعدائها وأعداء طهران، فسيكون الدور على إيران وحزب الله.

في هذا السياق، انطلقت الثورة السورية بشكل سلمي لتحقيق تطلعات مشروعة، ولكنها تعرضت لبطش النظام، ما وفّر الظروف والذرائع لأطراف المؤامرة الخارجية لاختطافها، والسعي لتقسيم سوريا وفرض الهيمنة والتبعية عليها، وأطرافها هم المسؤولون أولًا عما جرى ويجري في سوريا، بما في ذلك دعم القوى المسلحة الإرهابية، وتحويل سوريا إلى ساحة لصراعات الدول والقوى الخارجية.

وإذا عرّجنا على جذور المقاربات المتباينة في تفسير ما يجري قبل وبعد اغتيال سليماني، سنجد أنه يرجع في الأساس إلى غياب أو ضعف رؤية الترابط العضوي بين الوطنية والسيادة والاستقلال والكرامة الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته وسيادة القانون.

فليس هناك إمكانية لتجسيد الديمقراطية في ظل أنظمة تابعة وفاسدة، ولا تملك من الديمقراطية سوى اسمها، أو تختصرها وتقزّمها بصناديق الاقتراع، مع أنها أوسع من ذلك بكثير.

إن الديمقراطية من دون وطنية واستقلال توفر غطاء للتبعية والخضوع للأجنبي، والوطنية من دون ديمقراطية توفر الغطاء للاستبداد والفساد.

هناك مشاريع عدة تتصارع في منطقة الشرق الأوسط من أجل الهيمنة عليها في ظل غياب مشروع عربي، وهي المشاريع الإسرائيلية والتركية والإيرانية، بالتداخل والترابط والتنافس مع مشاريع دولية أميركية وأوروبية وصينية وروسية، وعلينا أن نتحلى بالوعي والعقلانية في التعامل معها، ما يقتضي:

أولًا: الامتناع عن الانزلاق في ذيل أحد المشاريع وخدمته على حساب المصالح والحقوق والأهداف الفلسطينية والعربية. فالقضية الفلسطينية محور الاستقطاب وليست في جيب محور ما رغم حجم التقاطعات مع هذا المحور أو ذاك.

ثانيًا: عدم المساواة بين من يقف مع الأهداف والحقوق الفلسطينية، مع إدراك أسبابه ومصالحه الخاصة، وبين من يقف ضدها، بين العدو والصديق، ولو على قاعدة عدو عدوي صديقي. فهناك جبهة عالمية متنوعة وواسعة الأطراف تقف إلى جانب الحق والعدالة والمساواة والتقدم، وفلسطين لا يمكن أن تكون إلا جزءًا فاعلًا فيها.

ثالثًا: لو لم يكن هناك مشروع تركي وآخر إيراني مع كل الملاحظات عليهما يتنافسان ويتصارعان مع المشروع الاستعماري الصهيوني في غياب مشروع عربي نهضوي، وحده الذي يكفل ألا تكون المنطقة العربية بثرواتها وشعوبها وأسواقها نهبًا للأطماع من كل حدب وصوب؛ فلن نبالغ إن قلنا إن هدف إقامة "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات أصبح قابلًا للتحقيق، أو قيد التحقيق فعلًا بأشكال وتجليات مختلفة.

وأخيرًا، من الوفاء أن تقف فلسطين مع إيران والعراق في مواجهة الجريمة التي ارتكبتها إدارة ترامب، ولكن هذا لا يعني أن الفلسطينيين يجب أن يقوموا بالانتقام، لأن هذا أكبر مما يجب ومما يحتملون، فضلًا عن أن عواقبه وخيمة. والرد الإيراني العراقي المنطقي يجب أن يكون في ساحة الجريمة، كما بدأ فعلًا بعد قرار البرلمان العراقي بسحب القوات الأميركية من العراق، على عكس ما أرادت واشنطن من الاغتيال. فالولايات المتحدة تتراجع في المنطقة والعالم، وتتقدم الصين وحلفائها، وتريد أن تُبقي على هيمنتها عن بعد من دون حروب ولا تواجد لقوات كبيرة ولا أثمان باهظة.