صالح يا صالح يا بو الشاليشـي قتلت الزابط مع الشاويشـي
تمشـي وتخابط تمشـي وتخابط صالـح المحمد قتل الزابط
هيي يا بو سحـاق يا مال الغارة ولحِقت صالح درب القنّارة
يومن رابطلـك بين الحـجـارة وانطاك الطلق بين العيونا
هيي يا بو سحاق وشمالك عاير ولحقت صالح درب الشكاير
هيي يا بو سحـاق يا بو طقيـة ولحقت صالح درب الصيفية" [1]
هذه حكاية المقاتل المقتول صالح الرقيّة من قرية لوبيا قضاء طبريا، الذي قاتل الإنجليز والصهاينة في ثورة الـ 1936 حتى تغنّت به نساء لوبيا، وشاءت الأقدار أن يموت مغدوراً في نهايةٍ مأسويةٍ لا تليق ببطلٍ مثله. تعرّفت على قصة صالح الرقيّة قبل سنتين من خلال مذكّرات الراحل الكبير يوسف سامي اليوسف "تلك الأيام"، ولم تفارقني حكايته المأسويّة منذ ذلك الوقت، وصاحبني صالح في حلّي وترحالي. بدأتُ أجمع شذرات سيرته، وأقصّ أثره في الروايات الشفويّة والأرشيف والكتابات. وشيئاً فشيئاً بدأتْ فصول حكايته تتكامل وتتّسع أبعادها أمامي، حتى رأيتُ حكاية فلسطين مخبوءةً في حكايته.
بعد أشهر طويلةٍ قضيتها في رحلة البحث عن تفاصيل حكاية صالح الرقيّة، بدأتْ تهجم عليّ التخوفات والظنون من سرد الحكاية كاملةً بحقائقها المرّة، خاصة أنّ جلّ مَن جاء على ذكره يعلو صوته عند الحديث عن صالح المقاتل ويهمس عند الحديث عن صالح المغدور، هذا إذا ذُكر مقتله أصلاً، حتى غلب عليَ التردّد في كتابة حكايته التي ترش الملحَ على جرحٍ غائر، وتحيي ذكرى عداءٍ قديمٍ "من أيّام البلاد"، فعزمتُ على تركها، ولكنّ طيف صالح الرقيّة لم يتركني، يناديني صوته المخنوق بالدّم معاتباً: وتهون عليك العشرة يا صاحبي!
لم تهُن عليّ العشرة يا صاحبي وهذه حكايتك أرويها لعلّك ترضى...
*****
لوبيا
تقع لوبيا، التي تنافست مع سَمَخ على لقب أكبر بلدات قضاء طبريا، على رقعةٍ من الأرض مطلة، على الطريق الذي يصل حيفا بطبريا عبر الناصرة. جرت على أرضها كثيرٌ من الأحداث الكبرى، وعَبَر تاريخها قادةٌ وعظماء؛ صلاح الدين الأيوبي في معركة حطّين، سليمان باشا والي دمشق العثماني الذي مات فيها، و نابليون في طريقه لحصار عكا، وجاءها القسام محرّضاً على الثورة. كتب المؤرّخون تاريخ هذه الشخصيات ودوّنوه، ولكن وحده هو صالح الرقيّة الذي اختارت الذاكرة الشعبية أن تخلّد ذكراه بالأغنيات والمواويل.
منذ أن بدأ فصل الغزو الأنجلو صهيوني في تاريخ لوبيا المديد، كانت القرية بؤرةً نشطةً لمقاومة الغزوّ نظراً لموقعها وعدد سكانها، ولشخصيّتها التاريخيّة التي تشكّلت عبر الصراع مع الغزاة منذ زمن الصليبيّين. وقد حفظتْ أسماء أمكنتها هذا التاريخ؛ عين دامية حيث مقتلة الصليبيّين في حطين، والمدّان الذي يقال إنّه تحريفٌ لكلمة الميدان.
برع اللوابنة في نصب الكمائن على طريق الناصرة-طبريا، محافظين على حالة اشتباكٍ دائمةٍ مع مستعمرة الشجرة منذ العام 1909، [2] وشاركوا في الإغارات الدورية على مواقع الإنجليز في طبريا. هذا بالإضافة إلى النجدات التي انطلقت من لوبيا للمشاركة في الأعمال القتالية للثورة في مثلث نابلس- طولكرم -جنين والجليل وصولاً إلى المقاومة العنيدة البطوليّة للقرية في عام النكبة. (أيضاً على باب الواد: المثلث الفلسطيني: فصولٌ من الثورة والمقاومة)
ولا يعني هذا التاريخ النضالي العريق أنّ لوبيا، مثلها مثل غيرها من القرى والبلدات الفلسطينية، لم يكُن فيها من تقاطعت مصالحه الطبقيّة مع المستعمِرين، وما يحتّمه هذا التقاطع من نشوء علاقاتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مع الأعداء، هذه العلاقات التي كانت سبباً للتوتّرات الداخلية في القرية والتي سيكون لها دورٌ حاسمٌ في مصير بطل قصّتنا صالح الرقيّة.
(صورة [3] المجاهد صالح الرقية )
صالح الرقيّة
لا نعرف على وجه التحديد تاريخَ ولادة صالح محمد طه غيث الشنشيري أو الشناشرة، والذي عُرف في لوبيا باسم صالح الرقيّة نسبةً لأمّه رقيّة العزام من صفورية، إذ كان من عادات أهل البلاد أن ينسبوا الولد لأمّه إذا كان أباه قد تزوج لأكثر من واحدةٍ كما هي حال بطل قصّتنا، أو إذا ربّته أمه يتيماً. تزوّج صالح من زهرة العطيّة من لوبيا، وأنجبت منه محمد وحمدة وهنا وكامل، وسكنا في حارة الشناشرة في بيتٍ غير بعيدٍ عن جامع القرية. ومع أنّ صِيته كمجاهدٍ صنديدٍ قد ذاع في لوبيا وما جاورها إلا أنّنا لا نعرف الكثير من التفاصيل عن نشاطِه العسكريّ خلال الثورة الكبرى 1936، فما وردنا من الروايات الشفوية يُفيد بأنّ صالح الرقية كان قائد فصيلٍ مكوّنٍ من 30-40 مقاتلاً، وهو أحد الفصائل الثلاثة التي شُكّلت في لوبيا خلال الثورة الكبرى وقد قاد أحمد عقلة وأحمد محمد عبد القادر الفصيلين الآخريْن.
نشط صالح في نصب الكمائن الليلية لآليات الإنجليز والصهاينة على طريق الناصرة-طبريا، وبالتحديد عند المنعطفات الحادّة لهذه الطريق شرقيّ لوبيا، [4] فضلاً عن مساهمة فصيله في الهجمات المتعدّدة على طبريا خلال الثورة. وبحسب ما حدّثني به حفيده صالح كامل صالح طه، [5] ممّا سمعه من جدّته وكبار السنّ اللوابنة في مخيم اليرموك، فإنّ جده كان على علاقةٍ وثيقةٍ بـالقائد القسّامي أحمد التوبة من صفورية، والذي تعود أصوله إلى قرية لوبيا إلى عائلة أبو حيط من حامولة الشناشرة. وكان القائد أحمد التوبة قد خطّط وشارك في تنفيذ عملية اغتيال حاكم الجليل"آندروز" في 26 أيلول 1937.
وتروي "أمّ صالح"، زوجة ابنه الأصغر كامل، بحسب ما سمعته من حماتها زهرة العطيّة، بأنّ صالح الرقيّة، والذي أصبح مطلوباً للإنجليز بعد نشاطه العسكريّ في الثورة، كان دائم الغياب عن البيت، وكان يعود ليلاً على فتراتٍ متباعدةٍ إلى لوبيا بصحبة مجموعةٍ من المقاتلين، يتناولون العشاء ومن ثمّ يغادرون البيت مع طلوع الفجر. وتتفق العديد من الروايات على أنّ الإنجليز قاموا بنسف بيت صالح الرقيّة مرتين.
ما بين لوبيا ونمرين: ولادة الأسطورة
في مرحلةٍ متقدمةٍ من الثورة، كان الإنجليز قد توصّلوا إلى قناعةٍ بأنّ إنشاء مخافر ثابتةٍ للشرطة والجيش داخل القرى "العدائية" أكثر فاعليةً في قمع الثوّار وردعهم من حملات التفتيش المتباعدة. ووجود هذه المخافر في القرى كان يعني التنكيل اليوميّ بأهلها واستخدام القرويين عمّالاً بالسخرة، [6] وإثقال كاهل الناس بتوفير المؤن لجلّاديهم، إذ كان على القرويين أن يوفّروا الطعام والشراب للقوّات المتمركزة في قريتهم. كلّ ذلك بهدف أن تصل القرية إلى قناعةٍ بأنّ من مصلحتها "الهدوء" وعدم السماح للثوّار باستخدام أراضي القرية قاعدةً لعملياتهم. (للاستزادة، استمع/ي إلى محاضرة كيف قمعت بريطانيا الثورة الفلسطينية الكبرى؟)
ومع تنامي عمليات استهداف الدوريّات الإنجليزية على طريق الناصرة-طبريا عند لوبيا، والتي كان صالح الرقيّة من الفاعلين الرئيسيين فيها كما أشَرنا، قرّر الإنجليز في العام 1938 إقامة نقطة مراقبةٍ للشرطة والجيش في قرية لوبيا. وقع اختيارهم على دار دمعون من حامولة الزعاترة مقرّاً لهم بعد طرد أهلها منها، وذلك لأنّ الدار كانت مؤلّفةً من طابقين وتقع في مكانٍ مرتفعٍ يُشرف على بيوت القرية.
بعد ظهيرة أحد أيّام العام 1939، شاهد أحد الجنود الإنجليز بمنظار "دربيل" فارساً مسلّحاً يقترب من لوبيا من جهة قرية نمرين في منطقة القنّارة، وهي تلّةٌ تتربّع ما بين لوبيا ونمرين وحطّين، والذي سيتضح فيما بعد أنّه صالح الرقيّة. تحرّكت سيارةٌ عسكريّةٌ نحوه، ونصبوا كميناً له في كرم بيت حجو، [7] وأطلقوا عليه النار فأُصيب في رجله وسقط عن فرسه، ليستحكم وراء صخرةٍ في منطقة الصيفية الوعرة. وعندما اقترب ضابط الدورية بصحبة مساعده الشاويش، بعد أن ظنّوا أنه قُتل، باغتهم صالح الرقيّة بإطلاق النار عليهم و أرداهم قتلى. وتضيف بعض الروايات أنّ مترجماً يهودياً يُدعى "أبو اسحق" يعمل مع الإنجليز قد قُتل أيضاً في الاشتباك.
وتورد روايةٌ شفويةٌ أخرى للحادثة بأنّ صالح الرقيّة المطارَد كان قد وصل إلى بيته للتوّ عندما وصلت إخباريةٌ للإنجليز بتواجده في البيت، فتوجّهت دوريةٌ مصفحةٌ للجيش الإنجليزي نحو بيته لاعتقاله، وعندما أحسّ صالح بالإنجليز ركب فرسه منسحباً صوب نمرين، [8] حيث وقع الاشتباك بالتفاصيل المذكورة أعلاه. وتضيف رواياتٌ أخرى حول الحادثة، بأنّ امرأةً من نمرين قامت بحمل صالح الجريح على فرسٍ وخبّأته عن أعين الإنجليز في بئر جافةٍ وأغلقت بابها عليه بعد أن تركت معه الطعام والماء. كما تفيد الروايات أنّ الإنجليز طوّقوا نمرين بعد هذه الحادثة ونكّلوا بأهلها لمدّة ثلاثة أيامٍ، على أمل أن يدلّوهم على مخبأ صالح الرقيّة، لينسحبوا بعدها وقد خاب مسعاهم.
ويورد الباحث محمود عيسى الرواية التالية للحادثة كما رواها له "أبو طلعت"، طاهر محمد حسين، رفيق صالح الرقيّة في السلاح:
كنّا قد وصلنا إلى نمرين عندما أصرّ صالح على زيارة أهل بيته في لوبيا بالرغم من اعتراضي على هذه الزيارة لخطورتها، وكان الإنجليز في لوبيا بصحبة مصطفى حسن أبو دهيس ابن المختار، في سيارة "لاند روفر" تحمل مدفعاً رشاشاً على مقدّمتها وما لبثوا أن وجّهوا فوهته نحونا، فقمتُ بإطلاق بضع طلقاتٍ على السيارة وقام الإنجليز بإطلاق النار نحونا فأُصيب صالح ووقع على الأرض. ترجّل ضابطٌ إنجليزيٌ شاهراً مسدسه وقد حسِب أنّ صالح قد قُتل، وما أن اقترب منه حتى أطلق عليه صالح النار فقتله وهرب بقية أفراد الدورية، وقمتُ بعدها بحمل صالح الجريح بمساعدة رجالٍ من نمرين إلى مقرّ قيادة الثورة.
وفي يوم الخميس 24 آب 1939، نشرت صحيفة "بالستين بوست" الصهيونية خبراً يتطابق مع وصف الأحداث التي أوردتها الروايات الشفوية، ويُفيد الخبر بإصابة الليفتينانت (V.G Howes) في اشتباكٍ مسلّحٍ مع فارسٍ عربيّ قرب نمرين قامت بعده القوات بتطويق القرية بحثاً عنه. [9]
دشّن هذا الاشتباك ولادة أسطورة المجاهد صالح الرقيّة، وبدأت نساء لوبيا بعده بالتغنّي ببطولته في الأعراس والمناسبات وهن "يهدههدن" أطفالهن ليغفوا على سيرته:
"صالح يا صالح يا بو الشاليشـي قتلت الزابط مع الشاويشـي
تمشـي وتخابط تمشـي وتخابط صالـح المحمد قتل الزابط
هيي يا بو سحـاق يا مال الغارة ولحِقت صالح درب القنارة
يومن رابطلـك بين الحـجـارة وانطاك الطلق بين العيونا
هيي يا بو سحاق وشمالك عاير ولحقت صالح درب الشكاير...
هيي يا بو سحـاق يا بو طقيـة ولحقت صالح درب الصيفية"
وبدأت الحكايات تُنسج حول مهارة صالح الرقيّة في مراوغة الموت والإفلات منه إلى أن أرسلته الأقدار في قادم الأيام إلى موتٍ غادرٍ خسيسٍ لا يليق بفارسٍ مثله.
صالح الرقيّة في دمشق
أعان ثوار حطين، وقِيل عيلبون، صالح الرقيّة على التسلّل إلى دمشق لتلقّي العلاج، بينما نسف الإنجليز بيته في لوبيا مع عددٍ من بيوت أقربائه انتقاماً منه. وبعد وصوله جريحاً إلى سوريا، اعتقله الفرنسيون في سجن القلعة في دمشق، قبل أن يضيف صالح الجريح فصلاً جديداً إلى أسطورته بالهرب من السجن، ويلجأ إلى "سوق الجزماتيّة" [10] في حيّ الميدان في دمشق، حيث آواهُ إسكافي ولفّه بـ "ثوب جلد" لإخفائه عن أعين الفرنسيين، وقيل إنّ عملاء للإنجليز كانوا يتتبّعونه في دمشق لاغتياله.
كانت دمشق قد تحوّلت إلى ملاذٍ آمن ومقرٍّ للثورة في بدايتها، مستفيدةً من التنافس الاستعماري ما بين الإنجليز والفرنسيس. لذا لجأ الإنجليز، وبمعاونة الحركة الصهيونية، إلى إنشاء شبكةٍ من العملاء السريين لملاحقة واستهداف الثوار في دمشق، وقد قاد ونسّق القنصل البريطاني في دمشق "ماك كيرث" العمليات السرية ضدّ الثوار هناك. وما أن بدأت نذر الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق حتّى تقارب الإنجليز والفرنسيس بما فرضه العداء للألمان من التقاءٍ للمصالح، وبدأ الفرنسيون بالتضييق على حركة الثوار ما بين فلسطين وسوريا. وفي ربيع العام 1939، بدأت سلطات الاحتلال الفرنسي باعتقال الثوار والمتسلّلين وتقديمهم للمحاكمة العسكرية. [11]
(صورةٌ جوية للوبيا في العام 1947، أرشيف مؤسسة "اسحق بن تسفي" الصهيونية في القدس.)
جريمة قتلٍ في دكّان سعود
لا نعرف المدّة التي قضاها صالح الرقيّة مطارداً في دمشق، ولكننا نعرف أنّه عاد إلى لوبيا في بداية الأربعينيّات، بعد أن أخمد الإنجليز الثورة المنهكة بالصراعات الداخلية، فأعاد تعمير بيته المهدوم، والذي سيتحوّل إلى مقرٍّ لمدرسة القرية بعد استئجاره من ورثته بعد وفاته. هل عاد صالح الرقيّة إلى لوبيا ليعيش "حياةً طبيعيةً" بعد أن تغيّر الزمان؟ أم أنّ روح الثورة بقيت تنفث في روحه العصيّة على التطويع، فظلّ قلقاً متمرّداً في زمنٍ جديدٍ أراد أن يطوي صفحة الثورة؟ مستأنسين هنا بالملاحظة المقتضبة التي أوردها يوسف سامي اليوسف في مذكّراته بأنّ صالح عاود نشاطه ضدّ الإنجليز بعد عودته، وبما تناثر في الروايات الشفوية هنا وهناك التي تشير إلى أنّه حافظ على شخصيته المتمرّدة العنيدة ودّمه الحامي. كلّ ذلك في فلسطين بداية الأربعينيّات، التي كانت تعيش حالة الطوارئ والاستنفار والغلاء للحرب العالمية الثانية حيث فرض الإنجليز على فلسطين نظاماً لاقتصاد الحرب أداره بقبضةٍ حديديةٍ "مجلسُ التموين الحربي"، والذي استحدثه الإنجليز في العام 1941 في فلسطين.
في الثالث عشر من آب 1944، [12] دخل صالح الرقيّة إلى دكّان سعود العطوات، في حارة الجرينة، "ليسدّد ثمن الحاجيات التي ابتاعتها زوجته زهرة أثناء غيابه لمدةٍ طويلةٍ عن لوبيا، حيث كان يغيب عن البيت لفتراتٍ طويلةٍ متباعدة لغاياتٍ نضالية"، بحسب رواية "أمّ صالح" زوجة ولده الأصغر كامل. لحق رمزي حسن دهيس، ابن مختار العطوات أكبر حمائل لوبيا، بصالح وضربه من الخلف بوزنةٍ حديديةٍ من عيار الرطل (3 كغم) أسفل رأسه، وبعد أن سقطت الوزنة قام بالتقاط وزنةٍ أخرى وضربه مرةً أخرى على رأسه.
خرج صالح الرقيّة من دكّان سعود مترنّحاً والدّم ينفر من رأسه شادّاً جرحه بيده. تصفُ الحاجة زهرة فضيل حجّو حال صالح الرقيّة وهو يمشي مدَمّياً في شوارع لوبيا: "إبن حسن أبو دهيس قتل واحد من جيرانهن، قتلوه يوميتها ضربوه بالعياره اللي كانوا يزيْنوا فيها. هاي أنا على وعيّي، نفد الزلمة وهو ضاربه على راسه والدم بخب في إجريه من تحت في الكندرة. من حارتنا نفد من باب دارنا.. واحنا نلعب شفناه". [13]
ونُقل بعدها إلى المستشفى في طبريا وفارق الحياة في اليوم التالي...
(مسرح الجريمة: [14] بيت صالح الرقيّة ودكان سعود المسعود وبيت حسن أبو دهيس )
يوسف سامي اليوسف الشاهد الوحيد
يقدّم الراحل يوسف سامي اليوسف وصفاً تفصيلياً لجريمة مقتل صالح الرقيّة في مذكراته، فيقول:
بعد عودة صالح من سوريا إلى لوبيا راح يسعى من أجل الحصول على السلاح تحضيراً للثورة، وذات يوم التقى برجلٍ اسمه حسن مختار الحارة الشمالية. [المقصود حسن أبو دهيس] وطلب حسن هذا من صالح أن يعطيه مسدسه، فرفض صالح طلبه وأصرّ على موقفه، [15] ولهذا تشاجر الرجلان وقام صالح بضرب المختار بحجرٍ. وعلِم أبناء المختار بما جرى فكان قرارهم أن يموت صالح الطيّب، وتدخّل رجالٌ من القرية لتسوية الخلاف وظنّ الجميع أن الخلاف قد انتهى. وذات يومٍ دخل صالح إلى دكّان واحد من تلك الحامولة [العطوات] ليسدّد ديناً كان عليه من قبل، وبالصدفة أرسلتني جدتي في تلك البرهة إلى ذلك الدكان نفسه لأشتري لها شيئاً، ولمّا رأيت صالح يقف أمام طاولة الحساب، ويحسب الدين مع صاحب الدكان، فقد تريثت عند باب الدكان قرب العتبة من الخارج بانتظار أن يتفرّغ البائع لي. ودخل الدكّان رمزي ابن حسن آنف الذكر، إنّه قصيرٌ نحيفٌ لا يُقارن بصالح العملاق، وإذ لم يغدر بخصمه من الخلف لتحتّم أن يكون هو المقتول وليس القاتل. وتحرّك رمزي حتى صار خلف ضحيته وتناول الرطل وضرب به رأس صالح فسقط العيار من يده فسارع وتناول نصف الرطل وضربه مرةً أخرى على رأسه، وهرب راكضاً نحو بيت أبيه القريب. أما المغدور فرأيته يرفع كوفيته وعقاله عن رأسه ثم يمدّ يده إلى موضع الضربة لتخرج راحته مضرجةً بالدماء وسمعته يقول: "إن نجوت سأريكم يا كلاب"، ونُقل إلى المشفى وتوفي متأثراً بجراحه.
وأحضر الإنجليز جثته مساءً ودُفن ليلاً بإشراف الجنود، ورأيتُ أمه رقيّة وهي تلطم على صدرها ووجهها وتبكي. وفي الحق أنّ معظم أهل بلدتنا، وبينهم بعض أقرباء رمزي، قد تعاطفوا مع صالح الرجل الصنديد الذي اُغتيل غدراً وبنذالةٍ وخسة. ولا أدري من أبلغ "البوليس" بأنّني الشاهد الوحيد على الحادث وأخبر جدتي أن تأخذني للإدلاء بشهادتي أمام المستنطق [المحقق]. وطول الطريق وجدتي توصيني بأن أقول بأنني لم أشاهد شيئاً لأنّ العطوات سوف يقتلون أبي إذا أنا صرّحت بالحقيقة، وسوف يحرقون بيادرنا ويقطعون زيتوننا ويسرقون ماشيتنا، فطمّنتها طول الطريق بأنني سوف أكتم الأمر. دخلتُ إلى مضافة يحيى السعيد وقد اجتمع حشدٌ من الرجال ورأيتُ الإنجليز لأول مرّةٍ في حياتي. وعندما سألني المحقّق ما كان منّي إلا أن أخبرته الحقيقة كما هي، إذ لقد حزنتُ كثيراً على صالح حين رأيتُ دمه يُضرّج يده، بل بقيتُ حزيناً عليه حتى يومنا هذا وكلّما تذكرت مقتله تذكرتُ على الفور المثل " العرب، فارسها مذبوحٌ وكريمها مفضوحٌ"، وصالح هو ذلك الفارس المذبوح الذي يُشير المثل إلى من هم على شاكلته".
والحق أنّ كلمات الراحل يوسف سامي اليوسف هذه قد أثّرت فيّ تأثيراً حارقاً حتى تكوّرت كتلةٌ من القهر في حلقي، وجعلت من قصة صالح الرقيّة لا تفارقني، حتى حملتُ مذكّرات اليوسف ورحت أتلوها وأنا أتجوّل بين أطلال لوبيا وفي دروبها. وحرّضتني هذه الكلمات على الكدح لمدّةٍ تزيد عن العام في سبيل كتابة حكاية صالح الرقيّة بما يليق بمأساة فارسٍ عربيّ مذبوح. وأثناء كتابتي لبحثي هذا، كنتُ أتصارع مع ذاتي لكي لا تؤثّر على أحكامي وما أخطّه من كلمات.
جريمة قتل صالح الرقية في الأرشيف الصهيوني
أثناء بحثي عن مصادر حول قرية لوبيا يمكنها أن تحتوي على معلومةٍ أو إشارةٍ إلى تاريخ صالح الرقيّة وقصّة مقتله، قمت بالبحث في الموقع الإلكتروني لما يُسمّى بـ "أرشيف الدولة" الصهيوني، وكانت هنالك إشارةٌ إلى ملفٍ محجوبٍ حول جريمة قتلٍ في لوبيا حدثت في العام 1944. إحساسي الداخلي قال لي: لا بدّ أنّ هذا ملف جريمة مقتل صالح الرقيّة رحمه الله، فقمتُ بتعبئة طلبٍ وإرساله لإدارة الأرشيف للحصول على الملف، وذلك في شهر أيّار من العام الحالي، ولكن لم يصلني أيّ جوابٍ بشأن طلبي، فتواصلتُ هاتفيّاً بالأرشيف بعد شهرين وأخبروني بأنّ الملف "حساسٌ" وهو في عهدة المستشار القضائي للأرشيف للبتّ في أمر السماح بنشره. طال انتظاري على أحرّ من الجمر، فأرسلتُ رسالةً مستعجلاً الرد، فردّوا عليّ بطلب كتابة رسالةٍ توضّح الهدف من طلبي من رفع الحجب والاطّلاع على هذا الملف، فكاتبتهُم بأنّني معنيٌ بهذا الملف لأغراضٍ بحثيةٍ بحتة وأنّ القضية معروفةٌ عند أهل لوبيا. وبعد ستة أشهرٍ حصلتُ أخيراً في 3 كانون الأول الحالي على الملف المكوّن من 109 صفحاتٍ من الوثائق حول حادثة مقتل صالح الرقيّة مع رسالةٍ تفيد بأنّ الملف سيتمّ إتاحته إلكترونياً على موقع الأرشيف في المستقبل القريب.
وأنا أكتب هذه الحكاية سألتُ زوجتي من أُصدّق الناس أم الأرشيف؟ سكتتْ قليلاً ثمّ أجابت: صَدّق الأغنيات.
جريمة قتل في لوبيا: الملف[16] رقم: TIB/43/44/SR
مخيفٌ هو الأرشيف، سلطة الحقيقة التي تمليها التفاصيل المدوّنة الدقيقة، ما توسوس به النفس بأنّ ما وصلك من روايات الناس هو نسخةٌ مشوّهة عن أصلٍ هو الآن بين يديك. بهذه التوجسّات بدأتُ أقلّب الصفحات لاهثاً بين السطور لأضيف لحكاية صالح الرقيّة رواية السلطة الاستعمارية، وبعد قراءتي للملف كاملاً قمتُ بترتيب مواد الأرشيف زمنيّاً.
تبدأ سيرة جريمة قتل صالح الرقيّة في الأرشيف الجنائي البريطاني في 15 آب 1944، عندما أصدرت شرطة طبريا تقريراً خصوصياً عن الجُرم [17] رقم (SR43/44)، احتوى على وصف الجناية بكونها القتل العمد طبقاً لأحكام المادة 214 من القانون الجنائي البريطاني، [18] ويتّهم فيه النائب العام نيابةً عن صالح محمد طه، مسلم، قرية لوبيا كلاً من:
1. رمزي ابن حسن أبو دهيس 20 عاماً، مسلم، قرية طبريا.
2. محمد ذياب طه، 21 عاماً، مسلم، قرية لوبيا.
3. عيسى سعود مسعود، 35 عاماً، طبريا.
ويسرد التقرير تفاصيل الجُرم والإجراءات المتّخذة كالتالي:
عند الساعة الثانية والنصف ظهراً في 13 آب 1944، وصل المتوفى إلى شرطة طبريا، بصحبة الشاهديْن علي أحمد يونس وحسين علي محمد اللذين شهدا بأنّه تمّ الاعتداء على المتوفّى من قبل المتهمين أعلاه. دخل المتوفى في غيبوبةٍ ونُقل إلى مستشفى "بيتير شويتزر"، [19] وتمّ تسجيل إفادات الشهود. توجّهت الشرطة إلى لوبيا لاعتقال المتهمين، والذين تمّ اعتقالهم فعلاً الساعة الرابعة فجراً في 14 آب، ووصل إشعارٌ إلى شرطة طبريا بوفاة المجني عليه عند الساعة الرابعة عصراً، وتمّ إبلاغ قاضي التحقيق الذي وجّه تهمة القتل للمتهمين. ومن إفادات الشهود يتّضح ما يلي حول ملابسات الحادثة:
في الثامن من آب، قدّم المجني عليه شكوى لشرطة طبريا بسرقة حصانين من بيته بالإضافة إلى 220 جنيه فلسطيني، وأنّ ابنه قد جُرح جرّاء إطلاق النار عليه. أكّدت التحقيقات صحّة السرقة، ولكن تبيّن أنّ ابن المجني عليه لم يُجرح، فتمّ توجيه تهمة تقديم بلاغٍ كاذبٍ للمجني عليه وتمّ حبسه. وقد أظهرت تحقيقات الشرطة أنّ عائلة حسن أبو دهيس كانت وراء السرقة وإطلاق النار وأنّ هنالك "فساداً" ما بين المجني عليه وعائلة أبو دهيس. وفي الثاني عشر من آب، أُطلق سراح المجني عليه من سجن طبريا وعاد إلى قريته [بعد إمضائه أربعة أيامٍ في السجن]. وعلى ما يبدو، فقد قابل المجني عليه المتهم وتشاجرا وقام الأخير بالتسبب له بجروحٍ أدّت إلى وفاته.
وفي مساء الرابع عشر من آب، تمّ نقل جثمان صالح الرقيّة لدفنه في مقبرة لوبيا تحت حراسةٍ مشدّدةٍ من الشرطة، وبقيت قوةٌ من الشرطة تحرس القبر لئلّا يقوم أهل المتوفى بإخراج الجثّة من القبر والطواف بها في القرية لإشعال نار الحميّة بين أفراد حامولته للانتقام من حامولة القاتل حسب ما يرد في تقرير الشرطة.[20]
وأما الروايات الشفويّة، والتي تتفق مع ما ورد في تقرير الشرطة فيما يتعلق بوقت الدفن وحراسة القبر من قبل الشرطة، فإنّها تفسّر حراسة قبره من قبل الإنجليز بخوفهم من أن يعود صالح الرقيّة من الموت كما حدث في المرّات السابقة التي ظنّوا أنه قد مات فيخرج عليهم شاهراً سلاحه.
وفي الثامن عشر من آب، حوّل القاضي التهمة الموجّهة للجناة من القتل العمد إلى القتل شبه العمد عملاً بأحكام المادّتين 212 و23 من قانون الجنايات، بما يعني تحويل عقوبة المتهمين من الإعدام إلى الحبس مدى الحياة في حال ثبوت التهمة. وبعد مراجعتي لقانون الجنايات، [21] وجب التنبيه إلى أنّ تهمة القتل شبه العمد وُجّهت للمتهم الرئيسيّ في القضية رمزي أبو دهيس بحسب المادة 212، بينما وُجّهت للمتهمين الآخرين تهمة المساعدة على الجرم بحسب المادة 23. ونستطيع هنا تشخيص بداية تدخّل المختار وابنه مصطفى في مجريات القضية. وفي الثاني والعشرين من آب، تمّ تمديد حبس المتهمين على ذمّة التحقيق لمدة 15 يوماً ونُقلوا إلى سجن عكا المركزي. وأقدم اثنان من الشهود، وهما أحمد حسن خليل ومحمد المحمد، في التاسع عشر من آب على تغيير إفادتيهما السابقة التي تدين الجناة بحجّة أنّ هذه الإفادات أُخذت منهما تحت الضرب والتخويف، وتمّ إطلاق سراحيهما بعد دفع كفالةٍ قدرها 100 جنيه لحين تقديمهما للمحاكمة بتهمة تقديم بلاغٍ كاذبٍ للشرطة.
ويبدو أنّ هذه التطورات في مجرى القضية قد شجّعت محامي المتهمين على تقديم طلبٍ للمحكمة بالإفراج عنهم بالكفالة، وهو الطلب الذي رفضته المحكمة في الرابع والعشرين من تشرين الأول خوفاً من أن يقوم المتهمين بالضغط على باقي الشهود لتغيير إفادتهم، خاصةً أنّ اثنين من الشهود قد أقدما على تغيير إفادتيهما فعلاً.
وفي الثالث من كانون الأوّل، قدّم حسن أبو دهيس استدعاءً لرئيس المحكمة المركزية في حيفا بواسطة المحامي حنّا أفندي عصفور للإفراج عن المتهمين من سجن عكّا بالكفالة الى حين إجراء المحاكمة، وأتبعه برسالةٍ إلى وكيل مساعد مدير شرطة طبريا في العاشر من كانون الأوّل، يستعجل فيها الردّ على استدعائه مستغرباً من عدم الردّ مع أنه قبِل شرط دائرة "البوليص" بأنّ تكون إقامة المتهمين في طبريا لحين المحاكمة، مذكّراً بأنه وبعد مرور حوالي أربعة أشهرٍ على وقوع الحادث " لم تحدث لا طوشة ولا مشاغبة بل القرية في كلّ هدوءٍ وسلام ". [22]
لن يطول انتظار حسن أبو دهيس، ففي جلسة المحكمة اللوائية في طبريا، والمنعقدة في الثامن عشر من كانون الثاني 1945، أصدر القاضي الاستعماري المخضرم "ستيوارت ويلدون" حكماً ببراءة المتهمين، وأُخليَ سراحهم حتى قبل قبول حامولة الشناشرة أخذ العطوة والصلح العشائريّ كما هو متبعٌ في مثل هذه الحالات، إذ تمّت مراسم الصلح بعد إطلاق سراح الجناة بحوالي أربعة أشهرٍ كما سيأتي بيانه.
ويجدر الإشارة هنا إلى الإفادة التي قدّمها الطبيب "يهودا راغولسكي" من مستشفى "هداسا" في طبريا، بعد حوالي ثمانية أشهرٍ من الجريمة في الثالث والعشرين من آذار 1945، [23] وذلك بعد أن طلب آل الشناشرة من الشرطة التحقيق في تدخّل حسن ومصطفى أبو دهيس في مجريات القضية بالرشوة والترغيب والترهيب، ممّا أفضى إلى الحكم ببراءة ولده القاتل رمزي. ويتضح من إفادة الطبيب، والذي كان مسؤولاً عن متابعة حالة المغدور وتطبيبه، أنّ الهمّ الأساسي لمن استنطقه هو إثبات أن المغدور كان في حالةٍ لا يمكن الوثوق بما كان يتحدث به لمن حوله، وجاء فيها: "في رأيي، وعلى الرغم من كونه واعياً وقادراً على تقديم إفادةٍ إلّا أن هذه الافادة لا قيمة لها "، وذلك لتفنيد إفادة أخ المغدور أحمد محمد طه، والذي قدّم للشرطة أسماء شهودٍ سمعوا ما قاله له المغدور قبل فقدانه للوعي في المستشفى. وهنا يجب التنويه بأنّ عائلة المغدور، بحسب ما قالوه لي في مقابلتي الهاتفيّة معهم، يعتقدون باحتمالية أنّه قد تمّ تصفية المجاهد صالح الرقيّة أثناء تلقيه للعلاج في مشفى "هداسا" الصهيوني في طبريا.
الشناشرة يرفضون الصلح ويطالبون بالتحقيق في الرشوة
بعد أن أطلق المتنفّذون من آل دهيس سراح ابنهم رمزي من السجن، وأخرجوه كـ "الشعرة من العجين" من السجن المؤبّد، جاء دور الضغط والابتزاز لإغلاق ملف مقتل صالح الرقيّة إلى الأبد، وذلك بعقد الصلح العشائري وما يستتبعه من إسقاطٍ للحقّ القانوني، وذلك استباقاً لنتائج التحقيق الذي طالب أهل الفقيد بإجرائه حول دفع الرشوة للشرطة لتبرئة رمزي أبو دهيس. ترد معلوماتٌ مهمةٌ عن تطوّر الأحداث التي انتهت بمقتل صالح الرقيّة في الرسالة الجوابية المطوّلة المكونة من ثلاث صفحاتٍ، والتي كتبها وكيل شرطة طبريا بتاريخ 17 آذار 1945، [24] لتفنيد الاتهامات ضدّ الشرطة بعدم سلامة الإجراءات القانونية وتلقّيها الرشوة. تتقاطع المعلومات الواردة في الرسالة مع ما وثّقه محمود خليل "أبو عصام" من أحداث لوبية اليومية في مذكّراته، والتي سنعود إليها لاحقاً في محاولتنا لفهم تسلسل الأحداث التي قادت الرجل الشجاع صالح الرقيّة إلى نهايته المأسويّة.
(ورقة منسوخة عن مذكرات محمد خليل "أبو عصام"، زوّدني بها صالح كامل صالح طه.)
تحتوي الرسالة الجوابية للشرطة على تفنيدٍ لادّعاءات سليمان العطية من وجهاء الشناشرة، والذي طعن فيها بنزاهة التحقيق وأنّ المختار حسن أبو دهيس قد رافق الشرطة عندما زارت موقع الجريمة وأملى على الشهود شهاداتهم. ويتكرّر في التقرير نفي وجود "عقال" في موقع الجريمة أثناء معاينة موقع الجريمة وتصويره، وذلك في معرض تفنيد أقوال الوجيه سليمان العطية. ويمكننا الاستتناج من التأكيد على عدم وجود العقال بأنّ الحجّة التي اعتُمد عليها لتلفيق براءة رمزي أبو دهيس ومعاونيه في الجرم كانت الادّعاء بأنّ القتل كان خطأً، بينما تشير بعض الروايات الشفويّة إلى أنّه قد تمّ تثبيت المغدور بالعقال للإجهاز عليه، وهو ما ينفي صفة القتل الخطأ. وتنتهي الرسالة الجوابية بأنّ القاضي "ستيوارت ولدون" أمر بإخلاء سراح المتّهمين بالكفالة، مع أنّ الشرطة كانت قد شدّدت أنّها ضدّ هذا الإخلاء حفاظاً على سلامة الإجراءات القانونية بعدم فبركة الإفادات والتأثير على الشهود.
ومن مطالعتي لطلبٍ [25] من مكتب التحقيقات الجنائية البريطاني (CID) في القدس للشرطة بتقديم معلوماتٍ حول السجل الجنائيّ للمتهم الفرعيّ في القضية محمد ذياب طه، وذلك من أجل فحص طلبه للالتحاق بجهاز الشرطة الانتدابية في العام 1946، يرد في الجواب على هذا الطلب "في 18-1-1945: قام القاضي "ولدون"، [26] رئيس المحكمة اللوائية المنعقدة في طبريا، بتبرئة (acquitted) كافة المتهمين بالقتل في القضية رقم 1489/44". [27] وقد قمتُ بمراجعة القواميس القانونية للتأكّد من معنى كلمة (acquitted) فتبيّن لي أنّها تعني حصراً البراءة من التهمة وليس الإفراج بالكفالة كما يخلُص إليه تقرير الشرطة. ويُشير التقرير إلى أنّ حسن أبو دهيس وابنه مصطفى قد سعيا لرشوة الشرطة بمبلغ 5000 جنيه، ولكن لا دليل على ثبوت تلقّي الرشوة من جهاز الشرطة.
صراعٌ في حقول الذرة
يورد محمد خليل "أبو عصام" في يوميّاته وصفاً تفصيلياً دقيقاً لتسلسل الأحداث التي سبقت وتلك التي تلت مقتل صالح الرقيّة في دكان سعود. يبدأ "أبو عصام" في تأريخه للحادثة بالثالث من آب 1944، ويقول إنّه في هذا التاريخ: "تقاتل صالح ورمزي بالذرة". ويورد تقرير الشرطة أنّ إخباريةً وصلت في بداية شهر آب بأنّ أهالي لوبيا قد بدأوا بحصاد محصول الذرة في القرية بدون تصريحٍ من مسؤول اللواء، وذلك حسب أنظمة الرقابة، والتي فرضها "مجلسُ التموين الحربي" على كلّ ما يتعلّق بالإنتاج الزراعي خلال الحرب العالمية الثانية في فلسطين، ويضيف التقرير: "أدّت هذه الحادثة إلى انتشار التوتر وجوٍّ من العداء في القرية، خاصةً مع عائلة أبو دهيس. وأدّى تطوّر الأحداث خلالها إلى الاعتداء على بيت صالح الرقيّة وسرقة حصانين في السابع من آب". وينقل الباحث محمود عيسى،[28] عن رفيق صالح أبو طلعت، أنّ صالح الرقيّة رفض تقديم الاعتذار إلى المختار حسن أبو دهيس بعد هذه الحادثة.
دعونا نضع هذه الحادثة التي انتهت بمقتل صالح الرقيّة ضمن السياق العام الذي فرضه الاستعمار البريطاني على فلسطين منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية. بدأ الإنجليز منذ العام 1939 بفرض سلسلةٍ من الأنظمة والقوانين الصارمة المتعلّقة بالرقابة على الموارد الاقتصادية لفلسطين وأهمّها الزراعة. فقد كان على فلسطين، وفق العقل الاستراتيجي البريطاني، أن تتحوّل خلال الحرب العالمية الثانية إلى مركزٍ إنتاجيّ لتموين الجيش البريطاني، لا في فلسطين وحدها وإنما في المنطقة. وتُوّج هذا التوجّه البريطاني بإنشاء "مجلس التموين الحربي" في العام 1941، وما تفرّع عنه من لجانٍ للرقابة على مختلف الأنشطة والقطاعات الإنتاجية وأهمها الزراعة، وخاصةً الحبوب، لكونها العمود الأساسي للنظام الغذائي، ولكي لا يحدث أيّ نقصٍ أو احتكارٍ يؤدّي لارتفاعٍ فاحشٍ في أسعارها ويقود إلى اضطراباتٍ سياسيةٍ تضعف "الجبهة الداخلية" وتضطرّ الجيش لتخصيص جزءٍ من قوّاته لمواجهتها. [29]
تركّزت أنظمة الرقابة على الحبوب في بدايتها على القمح أساساً، ثمّ توسعت قائمة الحبوب التي شملتها الرقابة إلى الذرة البيضاء والصفراء وذلك منذ شهر أيّار 1944، وأصبحت زراعة وحصاد وبيع الذرة تخضع لتعليمات مراقب الزراعة. [30] ونصّت أنظمة الرقابة على أن تقوم الحكومة بشراء المحصول بسعرٍ محدّدٍ سلفاً ومن تاجريْن اثنين فقط في كلّ مدينةٍ. ومن المعروف أنّ مصطفى أبو دهيس كان من كبار تجّار الحبوب في طبريا، وتعزّز موقعه هذا بشراكته مع تاجرٍ يهوديٍ توطدّت علاقته معه خلال ثورة 1936، عندما حوّل التاجر اليهودي محلّاته للعمل تحت اسم مصطفى أبو دهيس حمايةً لها من هجمات الثوّار. هذا بالإضافة إلى العلاقة الوطيدة بين مصطفى أبو دهيس والجيش الإنجليزي الذي كان يورّد له الحبوب والأحصنة. وفي مراسلاته الموجّهة للشرطة وحاكم اللواء بشأن طلب الإفراج عن ابنه رمزي قاتل صالح الرقيّة، استخدم المختار حسن أبو دهيس الأوراق الرسمية المروّسة بالعلامة التجارية لمحلّات ابنه مصطفى لتجارة الحبوب، في ما يبدو كتعزيزٍ لموقعه في هذه المراسلات. ووفق هذا السياق، يمكننا القول باحتمالية أن يكون صالح الرقيّة قد تحدّى هيمنة آل ابو دهيس، بما يمتلكونه من نفوذٍ وعلاقات، على إنتاج وتجارة الحبوب في لوبيا وكلّفه هذا التحدي حياته.
الصلح
كنا قد قلنا إنّ الشناشرة وأولياء دّم المغدور قد رفضوا الصلح على دّم صالح الرقيّة، بل إنّ الشرطة رفضت الموافقة على طلب الإفراج بالكفالة عن المتهمين المقدّم في الرابع والعشرين من تشرين الأول 1944، معللةً ذلك برفض أولياء دم المغدور الصلح مع حامولة الجاني وقبول العطوة، [31]وخشية وقوع جريمة قتلٍ أو جرائم انتقامية في حال الإفراج عن المتهمين. ولكن، يتضح من الروايات الشفوية وما آلت إليه الأمور، أنّ فرصة الشناشرة كانت ضئيلةً في إحقاق الحق أمام سلطة المختار وابنه مصطفى أبو دهيس، بما امتلكوا من نفوذٍ وعلاقاتٍ بالاستناد إلى ملكيّة الأراضي الكبيرة التي تحصّلت عليها العائلة والعلاقات التجارية المتشعّبة مع المستوطنات اليهودية والجيش الإنجليزي؛ هذه العلاقات التي يشير الباحث محمود عيسى بأنّها كانت مصدراً دائماً للتوتّر بين أهالي لوبيا.
شملت جهود آل أبو دهيس في سلسلة "التدخّلات" في سير التحقيق والعملية القضائية التأثيرَ على الشهود ترغيباً وترهيباً لتغيير شهاداتهم، بالإضافة إلى الرشوة، والتي اعترف الإنجليز بسعيهم لها دون تقديم أيّ دليلٍ عليها، لتعديل الجريمة من قتل العمد وعقوبتها المشنقة إلى القتل العمد، ووصولاً إلى القتل الخطأ كما نستنتج من قضية "العقال" المفقود من مسرح الجريمة. ولم يكتفِ آل أبو دهيس بتأمين الإفراج عن ابنهم، وإنّما أرادوا أن يغلقوا ملف الجريمة بالصلح العشائري أيضاً.
وعودةً إلى مجريات الأحداث التي انتهت بعقد راية الصلح على دّم صالح الرقيّة، يقول حسن أبو دهيس، في رسالةٍ وجّهها إلى "سعادة حاكم لواء الجليل المحترم" في الثالث من نيسان 1945، إنّه يتنازل عن الشكوى التي رفعها مؤخراً على حامولة الشناشرة وإنّه قبِل الصلحة بدون قيدٍ أو شرطٍ، ويتنازل أيضاً عن طلبه بخصوص وضع غرامةٍ مشتركةٍ على أفراد هذه الحامولة. [32] وهكذا، انقلبت الآية وصار الجاني يمنّ على المجني عليه بقبول الصلح وذلك بعد أن رفع المختار عصا الغرامات في وجه الشناشرة، وفي الوقت الذي كانت تعيش فيه البلاد وبالَ الغلاء وضِيق المعاش بسبب الإجراءات الاقتصادية الخاصة التي خضعت لها فلسطين في الحرب العالمية الثانيّة. جاءت هذه الرسالة بعد يومٍ واحدٍ من رسالتين وجّههما حسن أبو دهيس لمفتش "بوليس" طبريا ومساعد مدير "البوليس" يزفّ فيها "بأنّنا عزمنا على إجراء الصلحة حسب العادة والعرف بيننا وبين حامولة الشناشرة، وذلك يوم الخميس 5-4-1945، لذلك نرجو تشريفكم إلى قريتنا لوبية". [33]
وفي يوم الخميس وتحت الخروبة الكبيرة في مرج المدّان، نُصبت الخيام وجيئ بالقاتل إلى آل الشناشرة وقد وضعوا حول عنقه منديلاً أحمر "نَفَد من قدّام الناس كلّياتها ومطّى حاله وقعد قدامهم، اصطلحوا واتغدّوا وسلّموا على بعضهم وروّحوا"، [34] كما تروي الحاجة زهرة حجّو. وأما يوسف سامي اليوسف، فكتب في" تلك الأيام": وجيئ بشقيق صالح راغماً [على الأغلب أحمد طه] وصافح اليد التي قتلت أخاه. ورأيتُ ذلك الشقيق وهو يتعرّض للضرب من قبل بعض الرجال لأنّه رفض اللقاء بالجاني. [35]
وهكذا تمّ الصلح بين خصمين غير متكافئين بحضور ضبّاط الشرطة الإنجليز، والذين على الأغلب لم تقلّ فرحتهم بالصلح عن فرحة آل أبو دهيس بعدما بدأ التحقيق الداخليّ في قضية الإفراج عن الجاني وشبهة الرشوة.
آخر الكلام
"ما يصحّي النايم الغفلان في القبر إلّا السيرة الكذب ودمعة أم" [36]
"الخال عبد الرحمن الأبنودي"
هل قُتل صالح "أبو الشاليشي" لأنّه رفض أن يضع السلاح؟
أم أنّه قُتل لأنّه تمرّد على هيمنة الإنجليز ورجالهم على حبوب لوبيا وأرزاقها؟
أم أنّه ثأرٌ قديمٌ من أيّام الثورة، عندما أُطلقت النار على مصطفى أبو دهيس وهو بصحبة الإنجليز خلال اشتباك نمرين؟
لا نعرف على وجه اليقين حقيقة الدافع أو الدوافع وراء ذلك الصراع الذي اشتعل في شهر آب اللهّاب من عام 1944 في لوبيا وانتهى بمقتل المقاتل صالح الرقيّة وتبرئة قاتله والصلح تحت الخروبة الكبيرة على دّمه المسفوك في دكّان سعود.
ربّما تصافحت الأيدي مرغمةً بما أملته موازين القوى أيام البلاد، ولكن بقيت مرارة الغدر بالمجاهد صالح الرقيّة من قبل ابن المختار، ومن ثمّ تبرئته، تنوس جذوتها تحت رماد السنين والنكبات، وما تلبث أن تتوهج وتهيّج الذكريات. في العام 2009، وعلى موقع "فلسطين في الذاكرة" (Palestine remembered)، تحوّلت قصة مقتل صالح الرقيّة إلى صراعٍ على الذاكرة والحقيقة، توالت فصول هذا الصراع حتى العام 2018 بين أحفاد صالح الرقيّة وأحفاد حسن أبو دهيس. يقول أحفاد صالح: جدّنا صالح مقاتلٌ شجاعٌ قتله المختار وأبناؤه غدراً وخيانةً خدمةً للإنجليز، فيردّ أحفاد المختار: جدّنا بطل لوبيا وزعيمها ولا تنسوا مدفع مصطفى أبو دهيس ودوره في حرب النكبة!
ومن يُطالع الكتابات التي تؤرّخ للوبيا قبل النكبة، يمكنه أن يلحظ أنّ قصة صالح الرقيّة تشكّل توتراً دائماً في جميع هذه الكتابات؛ بين تجاهل القصة أو سردها مجتزأةً على وجلٍ أو محاولة صناعة تاريخٍ نضاليٍّ عريق لقاتليه. وتتكامل فصول مأساة صالح المقاتل حين نقرأ في هذه الكتابات بأنّ نجاح مصطفى أبو دهيس في "إنقاذ" أخيه القاتل من حبل المشنقة سيعتبره بعض اللوابنة دليلاً على صحّة نقيض كلّ ما مثّله المجاهد صالح الرقيّة. فما تورده كلّ الكتابات المؤرّخة للوبيا أنّ الصهاينة كانوا على تواصلٍ مع مصطفى أبو دهيس خلال بداية معارك حرب النكبة، عارضين اتفاقية عدم اعتداءٍ بين لوبيا و"الهاجناه"، وأنّ مصطفى أبو دهيس استمات في إقناع اللوابنة الذين رفضوا مصافحة يد الهاجاناة الممدودة وقرروا القتال، لتنتهي الحرب باحتلال لوبيا وتهجير أهلها. وتحت تأثير هول الكارثة ومرارة الهزيمة، بدأت تتعالى أصوات جلد الذات متمنيةً لو سمع اللوالبنة كلام مصطفى أبو دهيس بالتفاهم مع اليهود قبيل النكبة؛ فربما كان في مقدور من خلّص أخاه رمزي القاتل من حبل المشنقة بعلاقاته أن يخلّص لوبيا من الدمار والتهجير.
انقطع دمع رقيّة برحيلها بعدما ذاقت حسرة أن يسبقها ولدُها إلى القبر، فما بالك إذا كان ذلك الولد مقاتلاً صنديداً حمل اسمها حتى صار على كلّ لسان، وما بالك فوق كلّ هذا وذاك أن يكون موته غدراً وأن يفلت الغادر من العقاب! وبهذا لم يبقَ ما "يُصحّي" صالح "النايم الغفلان في قبره" بعد رحيل رقيّة سوى السيرة الكذب بحسب ما تَرعش به كلمات الخال.
المصدر: باب الواد