أقل ما يقال عن رد الفعل الفلسطيني الرسمي والشعبي على القرار الأميركي المتعلق بالاستيطان بأنه باهت، وليس بمستوى خطورة الحدث، ويُكرر بشكل نمطي الموقف الفلسطيني إزاء السياسة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب التي لا تُخفي نواياها بتصفية القضية الفلسطينية، من خلال اعتبار الحقائق التي يقيمها الاحتلال على الأرض هي المرجعية الوحيدة "لعملية السلام" الأميركية. وسأضع تفسير ضعف الرد الشعبي جانبًا في هذا المقال لأعود إليه في مقال لاحق.
يمكن تفسير الموقف الفلسطيني الضعيف من طرفي الانقسام من خلال اعتباره من وجهة نظر الرئيس محمود عباس بأن القرار الأميركي لا يحمل جديدًا، ومتوقعًا، ولا يغيّر من القانون الدولي الذي يعدّ الاستيطان غير قانوني، وإحدى نتائج الاحتلال غير الشرعي، ولا ينشئ حقًا ولا يترتب عليه أي التزام كما يظهر في الرفض العالمي له. أما وجهة نظر "حماس" فتتمثل في إلقاء كل المسؤولية على الانقسام والطرف الآخر من دون أن تقوم بواجبها.
ويمكن أن يرجع الرد الفلسطيني الباهت أيضًا إلى النوم على وسادة من الأوهام بأن "صفقة ترامب" ولدت ميتة، مع أنها تطبق بشكل حثيث ليس باعتبارها صفقة، بل حلًا إسرائيليًا يُفرض بشراكة أميركية كاملة، وإلى الرهان على الحكومة القادمة في إسرائيل في ظل اعتبار أن عهد بنيامين نتنياهو يشارف على الانتهاء، وأن الذي بعده، رغم سوئه، لن يكون مثله ولا أسوأ منه، وكذلك إلى الرهان على سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد حوالي عام.
ويعود الموقف الفلسطيني الباهت إلى أن الصراع على السلطة بين طرفي الانقسام يطغى على أي شيء آخر، وإلى أن الرئيس عباس ومن معه لا يؤيدون - خلاف ما يعلنون - الدعوات الفلسطينية لتغيير مسار أوسلو، وتطبيق القرارات الصادرة عن المجلسَيْن المركزي والوطني واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مع أن الرئيس أعلن بعظمة لسانه عن قرار وقف العمل بالاتفاقيات، بدليل أنه لم يترتب على ذلك أي شيء سوى تشكيل لجنة اجتمعت اجتماعًا وحيدًا، واصطفت إلى جانب مثيلاتها من اللجان التي لم تكن سوى مناورة لكسب الوقت وسرعان ما طواها النسيان، وأكبر دليل على ذلك الاستعداد لخوض الانتخابات ضمن سقف أوسلو ومستلزماته.
كما يرجع عدم القناعة بتطبيق القرارات بصورة رئيسية إلى وجود بنية ومصالح متجذرة بعد أكثر من 70 عامًا على النكبة، وأكثر من 50 عامًا على هزيمة حزيران، وأكثر من 12 عامًا على الانقسام؛ ستتضرر إذا طبقت القرارات، وإلى الخشية من عواقبها، والقناعة بعدم وجود بديل عما نحن فيه. مع أن من لا يطرح البديل ولا يرى بإمكانية بنائه؛ عليه أن يستريح ويترك الفرصة لمن يتصور أو يتصورون وجود بديل لما نحن فيه.
القضية والشعب والأرض في أسوأ مرحلة منذ النكبة، وهذا لم يكن قدرًا ولا نتيجة المؤامرات والأخطار الخارجية فحسب، بل تتحمل القيادة أولًا، وطرفا الانقسام ثانيًا، وبقية القوى والنخب ثالثًا؛ المسؤولية عمّا وصلنا إليه، وعن الأخطاء والخطايا والتنازلات والأوهام وحالة الانتظار وتقديس البقاء والعمل كل يوم بيوم من دون رؤية إستراتيجية ولا تخطيط ولا خطط ملموسة، وكذلك المسؤولية عن الرهان على المحاور العربية والإقليمية والدولية والمتغيرات التي لن تأتي بالخير إذا لم نكن قادرين على توظيفها، وتغليب المصالح الفردية والعائلية والفصائلية على المصلحة الوطنية .
سيؤدي القرار الأميركي في الحد الأدنى إلى تشجيع دعاة توسيع الاستيطان وبناء دولة "يهودا" الذين سيكثفون من تطبيق مخططاتهم التوسعية والاستيطانية، وفي الحد الأقصى يمكن أن تسارع الحكومة الإسرائيلية القادمة إلى ضم الأغوار وشمال البحر الميت، كخطوة على طريق ضم المناطق المصنفة (ج). ويزيد هذا الاحتمال إذا كانت الحكومة القادمة يمينية متطرفة، سواء إذا كانت بزعامة نتنياهو أو خليفته في الليكود.
هذا مع العلم أن الضم الزاحف والمتعمق يوميًا، والمترافق مع خلق حقائق احتلالية يوميًا بمعدلات كبيرة، الذي يفضله بيني غانتس وحزبه لا يختلف كثيرًا عن الضم القانوني. فعندما تُصادر الأرض وتُهوّد وتستوطن ويطرد ويصبح أصحابها الأصليون في مناطق (ج) أقل بكثير من المستعمرين المستوطنين، كما هو حاصل فعلًا، يكون الضم القانوني مسألة وقت لا أكثر.
لقد فتح عدم الرد الفلسطيني القوي على إعلان القدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، والسعي لتصفية قضية اللاجئين، وتبني الرواية التاريخية الصهيونية، وإسقاط خيار الدولة الفلسطينية؛ شهية حكام واشنطن وتل أبيب، فلم تنطبق الأرض على السماء كما صرحت نيكي هيلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة.
خطوات مقترحة ردًا على عملية تصفية القضية
أولًا: الدعوة إلى حوار وطني شامل في القاهرة، يحدد له سقف زمني قصير جدًا بهدف بلورة رد شامل على التحديات والمخاطر، ويكون قادرًا على توظيف عناصر القوة والفرص المتاحة، على أن يقود هذا الحوار إلى وحدة فلسطينية ورد جماعي إستراتيجي قادر على إفشال المخططات المعادية. ويكون على جدول أعماله تحديد الهدف المركزي وكيفية تحقيقه، وهو إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال، والكفاح من أجل تجسيد حق العودة، والمساواة الفردية والوطنية لشعبنا في الداخل، وتحديد الخطر الأساسي، وهو الاستعمار الاستيطاني وكيفية إحباطه.
وكذلك يجب أن يركز الحوار على كيفية إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، بحيث تكون قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد والمؤسسة الوطنية الجامعة الفاعلة، وهذا يقتضي وضع قواعد المشاركة الديمقراطية التوافقية ضمن قواعد الجبهة الوطنية والاتفاق على الأساس السياسي المشترك، إضافة إلى دراسة وضع السلطة بعد أن بدا واضحًا أنها يراد لها أن تكون سلطة حكم ذاتي إلى الأبد، وهل يجب حلها والانتقال إلى تجسيد الدولة، أم أن المطلوب تغيير شكلها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها وتصحيح علاقتها بالمنظمة لتكون أداة من أدواتها، وتنقل الجوانب السياسية من السلطة إلى المنظمة.
إن ما سبق يتطلب إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات على أساس إنهاء هيمنة الرئيس و"فتح" على السلطة والمنظمة، وإنهاء السيطرة الانفرادية لـ"حماس" على قطاع غزة، والاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات كلما كان وحيثما كان ممكنًا. كما يتطلب إعادة النظر في طبيعة عمل ودور وعدد الأجهزة الأمنية، بحيث تكون محصورة بجهاز واحد (الشرطة) أو اثنين على الأكثر، على أن تتوزع أفرادها وموازنتها على الوزارات والقطاعات الأخرى.
ثانيًا: تشكيل جيش وطني في قطاع غزة يضم جميع الأجنحة العسكرية للمقاومة والفصائل، ويخضع لإستراتيجية موحدة وقيادة واحدة. وهنا تحتل المقاومة بكل أشكالها، وخصوصًا المقاومة الشعبية والمقاطعة، موقعًا مهمًا في أي رد فلسطيني جاد وحقيقي.
ثالثًا: تعزيز عوامل الصمود والتواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين. وهذه مهمة على درجة فائقة من الأهمية، لأن المرحلة الآن ليست مرحلة تحقيق الحل الوطني، وإنما مرحلة إحباط الحل الأميركي الإسرائيلي، وتقليل الخسائر والأضرار، والحفاظ على نقاط القوة والمكاسب، وخصوصًا تواجد 7 مليون فلسطيني على أرض فلسطين، وعلى الكيان الوطني الواحد الذي تمثله المنظمة، وقناعة الشعب بأنه شعب واحد ومستعد لمواصلة الكفاح لإنجاز حقوقه الوطنية.
رابعًا: دعم الإنتاج الوطني وإقرار قانون بتحريم الاستعمار الاستيطاني، ومنع وتجريم جميع أشكال التعامل والعمل والتجارة والاستثمار مع المستوطنات.
خامسًا: وضع خطة للتخلي عن الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، السياسية والاقتصادية والأمنية، تبدأ بسحب الاعتراف بإسرائيل.
سادسًا: تفعيل البعد العربي للقضية الفلسطينية الذي من دونه لا يمكن أن تستمر القضية، لكن من دون إلغاء الدور الخاص الفلسطيني، وطابعها كحركة تحرر تحظى بدعم عالمي، والدعوة لإطلاق عملية سلام من خلال مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات، مرجعيتها القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، بحيث يتم التفاوض على تطبيقها لا التفاوض حولها .