جغرافيا السلطة المتقلّصة
لقد اكتملت السلطة الفلسطينية في بُنيتها والدور الوظيفيّ والسياسيّ الذي تقوم به، والمُرتهَن بالأساس بصيرورة العلاقة مع البنى الاستعمارية والمانح الإمبرياليّ، وكذلك بالتعاون مع أقطاب وحلفاء هؤلاء في المنطقة. يكمُن أحد أعمدة ديمومة النظام الفلسطينيّ -السلطة الفلسطينية- بشكله الحاليّ في خلق وإعادة إنتاج الأزمات؛ أي أنّ أحد عناصر قدرة هذه النخب على البقاء في قمّة الهرم السياسي، ينطوي على إنتاج الأزمات وتوظيفها الاجتماعيّ والسياسيّ والدبلوماسيّ في خدمة بقائها وبقاء الامتيازات التي نالتها نُخَبها.
يستند بقاء السلطة على قدرتها في توزيع الأموال عبر شبكات السلطة والتنظيمات المرتبطة بها، لذلك عادةً ما ترتبط الأزمات التي تواجه السلطة بحساباتٍ داخليةٍ تتناول كيفية إعادة توزيع الريع الماليّ داخل شبكتها الاجتماعية والاقتصادية، بمعنى: أين تريد أن تضع ثقلها؟ ومن خلال من تريد وضع ذلك الثقل؟ وكيف سيساهم ذلك في تعزيز نفوذها وحضورها وإمكانية بقائها؟
خلال العقد الماضي، اغتنمت السلطة الفلسطينية العديد من الفرص لتعزيز جغرافية السيطرة في الضفة الغربية، وبالتحديد في "مناطق أ" على حساب جغرافياتٍ أخرى لتقلّص من دورها وحجمها الجيو-سياسيّ، وقد وظّفت شبكات الريع الخاصّة بها، والمُموّلة خارجياً، لتعزيز تلك السيطرة في الضفة الغربية على حساب الالتزامات المالية التي كانت السلطة تقوم بها في الشتات الفلسطيني والقدس وغزة. نذكر هنا مثلاً: الاعتراف الفلسطينيّ بالوصاية الأردنية على الحرم الشريف، ونذكر أيضاً قبول السلطة -مُمثّلةً بالرئيس- بإجراءات الدولة اللبنانية بما يخصّ العمالة الفلسطينية في لبنان، وغيرها من قرارات الانفكاك عن قضايا الفلسطينيين خارج جغرافية الضفة الغربية والتعاطي معها كقضايا هامشيةٍ ومزعجةٍ.
تستند إجراءات الانفكاك اليوم، خاصّةً بالعلاقة مع القدس وغزة، على ضعف التمويل الماليّ الذي تتلقّاه السلطة، فضلاً عن التحوُّل الواضح في أولويات المانحين الأوروبيين والدوليين، وتوجيه برامج التمويل إلى مواقع وأولوياتٍ أخرى في المنطقة. بتعابير أخرى، اقتنعت الدول المانحة أنّ بوُسعِها شراء الهدوء والتعاون الأمنيّ الفلسطينيّ مع العدوّ بنصف السعر! ففي العام 2010 استلمت السلطة أكثر من أربعة مليار شيكل كدعمٍ مباشرٍ لميزانيتها، بينما استلمت العام الماضي أقلّ من 2 مليار شيكل، ناهيك عن إيقاف الدعم الأمريكيّ المباشر لمستشفيات القدس والصعوبات المالية التي تواجه هيئات دوليةً مثل وكالة "الأونروا"، والتي باشرت منذ سنوات في تقليص خدماتها للاجئين الفلسطينيّين، وتخلّت عن بعضها تماماً.
بطبيعة الحال، لم تقاتل السلطة حتى على حُصّتها المالية، فقد كانت قلة الرد بالعديد من الملفات كافيةً لإقناع المانح والعدوّ بأنّ السلطة لن تُغيّر من قواعد اللعبة حتّى في ظلّ سياساتٍ تُضعف من حضورها ونفوذها في المجتمع الفلسطيني، على قاعدةٍ تقول: "أعطِهم ما يكفي للاستمرار في الدور الأمنيّ في الضفة فقط، فهذا حجمهم الحقيقيّ".
تحاول كلّ منظومة هيمنةٍ إنشاءَ وتطويرَ أسُسٍ لتعزيز شرعيّتها ووجوب وجودها، ولكلّ منها آليات عملٍ تختلف بناءً على شكل وطبيعة هذه المنظومة ومصادر قوّتها. فمثلاً، يُترجم ضعف التمويل الخارجيّ للسلطة إلى ضعفٍ في قدرتها على شراء الولاءات، وبالتالي حاجتها إلى تقليص حجمها ودورها السياسيّ في جغرافيات القدس وغزة. وبتعابيرَ أخرى، توجّهت السلطة في ظلّ الشحّ نحو تركيز مواردها المالية إلى مناطق نفوذها المباشرة وإلى سياساتٍ تخدم تراكم رأسمال الفلسطينيّ القريب منها أو المُعتمِد عليها. كما تتضّح أولويات الصرف في البُنية؛ أي على ما تراه جوهرياً، وما تراه هامشياً.
بطبيعة الحال، يكشف التقصير في الصرف وتحويل الأموال لمستشفيات القدس ولمرضى السرطان عن سياسةٍ مُتعمّدةٍ تتجاوز معضلة شحّ الأموال أو شحّ إمكانية الصرف، بل تنضوي أيضاً عن استهدافٍ خفيٍّ لدور السلطة كمؤمّنٍ طبيٍّ وعن إعادتها النظر في الإنفاق في الملفات الصحية وترتيبه كأمرٍ ثانويٍّ عليها التخلّص من أعبائه رويداً رويداً، وتحويل هذه الأعباء نحو المجتمع الفلسطيني من خلال مجموعةٍ من السياسات المُقترحة، على شاكلة تأميناتٍ صحّيةٍ أو تقليص الإنفاق على المرضى في ملفّاتٍ عديدةٍ قد تكون أقلّ "ضرورةً" من مرضى السرطان، أو تحويل الصرف نحو مستشفيات الضفة وحسب. ولكنه أيضاً، يتعدّاها ليعبّر عن استعدادية السلطة لتقليص دورها في الإنفاق على قضايا أخرى مرتبطةٍ بشبكة الأمان الاجتماعيّ التي وفّرتها، على شاكلة التحويلات الطبية، مقابل عدم جاهزيّتها بالمساس بأكبر قطاعٍ وأقلّه ضرورةً، والمتمثّل بالأجهزة الأمنية.
إنّ ما يقف خلف السياسات التي تنتهجُها السلطة من مقترحاتٍ للضمان الاجتماعيّ، وقوفاً عند العقوبات المفروضة على غزة، ووصولاً إلى افتعال أزمات التحويلات لمستشفيات القدس، هو نزوحها نحو التقلّص، ونحو الاستغناء عن الصرف الذي كانت تقوم به على صعيد الجغرافيات الاستعمارية الثلاثة: غزة والقدس والشتات، في مقابل الإبقاء على أجهزة قمعها وعلى قدرتها في توفير السيولة وتوجيهها نحو مركز ثقلها وسيطرتها الأساسيّ في مناطق نفوذها في الضفة الغربية؛ أي بالمواقع التي تشكل العمود الفقري لوجودها.
على سبيل المثال، كان من المُزمع أن يوفّر مشروع الضمان الاجتماعيّ للسلطة القدرةَ على إدارة أموال الناس وعلى توظيف تلك الأموال في عملية توفير سيولةٍ لميزانيات السلطة تعتمد مبدأ الاقتراض أساساً، وإذا ما نجحت في إقراره كانت ستفلح في إدخال السوق الخاصّ برمّته، خاصّةً الاقتصاد غير الرسميّ، إلى منظومة البنوك والصناديق التابعة لها، ما يخدم تعزيز هيمنتها وسيولتها وربط قطاعاتٍ وشرائح جديدةٍ -عمّال الداخل والمستوطنات والقطاع الخاصّ الفلسطينيّ- بالسلطة ودورها. بينما شكّلت العقوبات على غزة تقليصاً واضحاً للعبء الماليّ الذي كانت تشكّله غزة على ميزانية السلطة، يُفتح ملف التحويلات لمستشفيات القدس اليوم كمقدمةٍ لبداية تقليص دورها الماليّ في الصرف الطبيّ عموماً والصرف على المرضى الفلسطينيين في القدس خصوصاً.
سلطة الكرّ والفرّ
إنّ ما تقوم به السلطة، فعلياً، هو اختلاق الأزمات بهدف تمرير سياساتٍ جديدةٍ قد تكون للوهلة الأولى غير مقبولةٍ؛ تعمل بمبدأ الكرّ والفرّ، تضربُ ومن ثمّ تتراجع، وتقوم بعملية التأزيم ومن ثمّ تحلّ الأزمة، وهكذا دواليك. وتعمل، رويداً رويداً، على تفتيت دفاعات المجتمع الفلسطيني، فيتحوّل الفجّ وغير المقبول إلى نقاشٍ عامٍّ أو إلى سياسةٍ جديدةٍ يتمّ تمريرها بسلاسةٍ ضمن معادلة القبول في موقعها ودورها الوظيفيّ الأمنيّ المتواطئ مع العدو. وكأنّ ما تبقّى من الثورة الفلسطينية ومنظّمة التحرير ومن استراتيجية الكفاح المسلح هو تطبيق تكتيكات الكرّ والفرّ، ولكن في مواجهة مجتمعها. أما في مواجهة العدوّ، فتتبع السلطة سياسةً واحدةً: "الفرار للأمام"..
كما أعلنت السلطة مؤخّراً عن حظر مواقع صحفيةٍ غير تابعةٍ لمنظومة التمويل الخاصّة بها أو منابعها، ومن ثمّ تراجعت عن القرار سريعاً، لتبدو بمظهر المُحامي عن حقّ الحرية في التعبير ولتختبر ردود الأفعال حول حظر تلك المنصّات، خاصّةً وأن تلك المنصّات تتبع، بمعظمها، الرأسمال السياسي لدولٍ وتياراتٍ سياسيةٍ تختلف مع السلطة أو تتنافس معها، كقطر وتركيا وتيار محمد دحلان.
وبطبيعة الحال، تمتهن السلطة المسرح وفن والأداء والتمثيل؛ فهي تحتاج الأدائية في تبرير وجودها، أو في تقديم انتصاراتٍ سياسيةٍ، أو في التأكيد على وطنيتها في ظلّ تعاونها الأمنيّ مع العدو. وتحتاج إلى أزماتٍ تذكّرنا فيها بكونها تدفع تكاليف الأدوية لمرضى السرطان، وأنّها تستطيع حجب منصّاتٍ إلكترونيةٍ، ثمّ تختار أن تسمح لها بالعمل، وأنّها ما زالت حامي الهوية الفلسطينية، لكنّها بالحقيقة هي ذاتُها من تقتل إمكانية تبلوُر مقاومةٍ فاعلةٍ في الضفة الغربية.
ولنأخذ مثلاً أزمة أموال المقاصّة، تعاطت السلطة معها وتعاملت في أدائيةٍ بطوليةٍ عاليةٍ بما يتعلّق بملف المستحقات المالية للأسرى وعوائل الشهداء، ولكنّها في محصّلة خطواتها الصغيرة بدأت فعلاً بتقليص حجم الأعباء المالية المُرتبطة بمرتّبات الأسرى وعوائل الشهداء من خلال اقتطاع أموال بعض العائلات في الضفة واستهداف أسرى غزة، أو من خلال استصدار عوائق بيروقراطيةٍ أمام الاعتراف بالكثير من الأسرى السياسيين والاكتفاء بالتعامل مع بعضهم كأسرى جنائيين.
الأسوأ من ذلك أنّها دخلت في معركةٍ على أموال المقاصّة، ومن ثمّ عادت وقبلت بتحويل هذه الأموال منقوصةً بعد أشهرٍ قليلةٍ كما حصل في الشهر الماضي، وكأنّها دخلت المعركة فقط لتقول لنا إنّها دخلت المعركة وهي تعلم مُسبقاً أنّها ذاهبةٌ إلى معركةٍ ستقبل بنهاية المطاف إملاءات الصهيونيّ فيها. وبهذا، استطاعت السلطة تقديم نفسها كمحامي دفاعٍ وطنيٍّ عن مستحقات الأسرى، ولكنها في الوقت ذاته خضعت لإملاءات الصهيونيّ وإملاءات المانح الدوليّ.
وفي خضمّ معركتها على أموال المقاصّة، اقترحت السلطة إجراء انتخاباتٍ، وهي تنتظر بفارغ الصبر أن ترفض حماس إجراءها، أو أن ترفض "إسرائيل" انعقادها في القدس، حتّى يكون لها المبرّر في التراجع عن اقتراحها. لا يأتي المقترح كونه أكثر من مجرّد إلهاءٍ ومقولةٍ أخرى تحاول تسويقها لنا: أنا أحاول التجديد ولكنّ الآخرين -أيّ حماس والاحتلال- يمنعونني. تبحث السلطة دوماً عن أسُسٍ لتبرير وجودها، عمّا يُمكن أن يعطي هذا المنظومة وقتاً أكثر وأشهراً أكثر، فهي فقدت، ولا تزال، مبرّرها الوطنيّ. ولم يُسفر استثمارها بالقائمة المشتركة ورديف السلطة في الداخل الفلسطيني المحتل، أيمن عودة، عن حلٍّ لأزمتها بإفراز إلى الحكم يسار-وسط صهيوني (تكتُّل أزرق-أبيض) يُكسبها بعضاً ممّا فقدته في حكم "نتنياهو" و"ترامب"، أي في إعادة مسرح المفاوضات إلى الواجهة.
أو لنأخذ قرار رئيس الوزراء الجديد بالانفكاك الاقتصاديّ عن الاحتلال، فعندما يصبّ الأمر في مصالح المصانع الكبرى، يصبح الانفكاك أمراً ثانوياً لحكومةٍ رخّصت مصانع زيتون تستورد الزيتون الصهيونيّ وتُلصق عليه مُلصق "منتج وطنيّ". ناهيك عن محاولة حكومة اشتية وقف استيراد العجول الإسرائيلية والذي وُجّه بتهديدٍ واضحٍ من قبل الصهاينة بفرض مجموعةٍ من العقوبات على السلطة خاصّةً في مجالات تصدير المنتج الزراعيّ الفلسطينيّ إلى الأسواق "الإسرائيلية". وما زالت السلطة تترنّح ما بين سحب القرار والإصرار عليه ضمن ما يبدو على أنه صراعٌ على صلاحيات رئيس الوزراء.
بالفعل، تُظهر لنا "حرب العجول" عن عدم قدرة أو وجود أيّ نوعٍ من أنواع الإرادة عند هذه السلطة في التعاطي مع نفسها بجدّيةٍ. كلّ شعارات المواجهة التي تحملها السلطة من "بناء الدولة" مروراً بـ "تدويل الصراع" وصولاً إلى "الانفكاك الاقتصاديّ"، ما هي إلا محاولةٌ لإيجاد معارك واهيةٍ تُقدَّم لنا على أنها مصيريةٌ، بينما هي في الحقيقة مجرّد محاولةٍ لإقناع نفسها، وإقناعنا معها، أنّها لا تزال تمتلك مشروعاً وطنياً أكبر من ملء جيوب أبناء السلطة وشركائها.
باختصارٍ، لا مكان في حقبة "أبو مازن" للحقيقة، يُمكن لك أن تقدّس التنسيق وأن تُعلن عن وقفه وتجميده في آنٍ، كما يُمكن لك أن تتحدّث عن إنهاء الانقسام بينما تقوم بتعزيزه، أو التمسّك بحرّية الرأي بينما تستثمر أساساً في بُنًى قمعيةٍ تستهدف اعتقال وقتل أبناء تيار المقاومة في الضفة الغربية. في حقبة "أبو مازن" يمكنك أن تنتج المقولة والمُضادّ لها، وأن تتعايش مع الاضطراب وكأنّه طبيعيٌّ، بل أن يكون الاضطراب ذاته هو ما يُنتج بقاءك!
في سياق السلطة، يشكّل تهديد أفولها أهمّ عنصرٍ في بقائها، بمعنى، يشكّل التهديد الضمنيّ أو المباشر في إمكانية أفولها القاعدةَ التي من خلالها تستطيع إعادة إنتاج ذاتها وتوجيه سياستها نحو أهدافٍ مُحدّدةٍ، وتمرير سياساتٍ جديدةٍ تحت طائلة الأزمات المتتابعة التي تواجهها. فهي مصدر رزقٍ للعديد من الفلسطينيين، وحتّى في هذا الشأن قد باتت ضعيفةً وواهنةً وتحتاج إلى الكثير من التقليم والتقليص.
وبخلاف بيان وزارة الصحة عن أولوية الصرف لمستشفيات القدس، تكمن الحقيقة في أنّ القدس أضحت عبئاً على كاهل السلطة تحاول التخلّص منه، كما تحاول تماماً التقليل من التكلفة السياسية والمالية لتحمّل أعباء الأسرى وأسَر الشهداء، من خلال رفض تسليم أموال المقاصّة ومن ثمّ القبول فيها منقوصةً، مُعلِنةً عن عجزها في الدفاع عن أيّ شيءٍ.
لا تنفكّ الأزمات عن التوالي، ولا تنفكّ الحلول لتلك الأزمات بالانكشاف على حقيقتها، وتكتفي سلطة الكرّ والفرّ بموقعها ودورها السياسيّ والأمنيّ المحصور في الضفة، بينما تريد عبر حديثها عن الانفكاك الاستراتيجيّ الاقتصاديّ من الاحتلال فتحَ آفاقٍ لتوسعة عملية تراكم الرأسمال الفلسطينيّ المرتبط بها، وليذهب كلّ شيءٍ آخر إلى الجحيم.
المصدر: باب الواد